مقال

فى طريق الاسلام ومع نبى الله زكريا ” الجزء الثالث “

فى طريق الاسلام ومع نبى الله زكريا ” الجزء الثالث “
إعداد / محمـــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء الثالث مع نبى الله زكريا عليه السلام، وقد توقفنا عندما قال” وإنى خفت الموالى من ورائى ” أى بمعنى خفت من يتولى بعدي على بني إسرائيل، ألا يقوم بدينك حق القيام، وألا يدعو عبادك إليك، ونبى الله زكريا عليه السلام قد نظر فيمن ترك من حوله فما رأى رجلا يقوم بالأمر قياما قويا، ما رأى شخصية تحمل الدين حملا يتم به المقصود، فقال رب إنى خفت الموالى من ورائى ” وهم الذين أتركهم من بعدي ضعاف، أريد وليا، أريد قويا، أريد ولدا، أريد ذرية تقوم بعدي بالدين، أنا قمت في بني إسرائيل لكن إذا مت ما أرى بعدي أحد مؤهل، وأسألك ولدا مؤهل، أن يقوم بالدين من بعدي، يرثني ليس يرث المال، وإنما يرث العلم والنبوة، فقال ” يرثنى ويرث من آل يعقوب ” أى ميراث العلم والعمل، ويلي أمر الدين، ويقوم به فسأل الله ولدا ذكرا صالحا باقيا، يبقى بعد موته، يكون وليا من بعده نبيا، مرضيا، صالحا، فقال كما جاء فى سورة الأنبياء ” وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرنى فردا وأنت خير الوارثين ” أى رب لا تذرنى فردا وحيدا ليس لي عقب، رب لا تذرنى عقيما أبتر لا ولد له، ومع أن النبي يكفيه أن يتبعه من تبعه من الناس، وعلم الخير، ونشر الدين، لكنه أيضا يريد أن يكون له ذرية تستمر على نفس الطريق، وتقوم بالأمر من بعده، لأنه رأى نبى الله إبراهيم وبعده إسماعيل عليهما السلام، وكذلك رأى نبى الله إسحاق ووراءه يعقوب عليهما السلام.
وكذلك رأى نبى الله يعقوب وراءه يوسف عليهما السلام، ورأى نبى الله داود ووراءه سليمان عليهما السلام، فهو رأى أنبياء لهم أولاد قاموا بالأمر من بعده، فيريد نبى الله زكريا عليه السلام مثل هذا، فهو يريد من يعينه على الدعوة والدين، إذا زكريا طلب الولد كما قلنا سابقا طلب الولد ليس للدنيا، ما قال أريد ولدا يعطف عليّ إذا كبرت، وينفق عليّ إذا عجزت عن الكسب، واستعين به في أمور دنياني، ويخدمني إذا مرضت، يريد ولد يقوم بأمر الدين معه، ميراث النبوة والعلم، لم يطلبه لينال به حظا من الدنيا، وهذه علو الهمة في طلب الولد، أنه يريد ولدا عالما داعيا مجاهدا، كما كان في قصة نبى الله سليمان عليه السلام، أراد أن يطوف على نسائه، لكي تأتي كل امرأة بمجاهد في سبيل الله، وهذا هو علو الهمة في طلب الأولاد، مجاهدين، وكذلك قال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ” إنا معشر الأنبياء لا نورث” رواه أحمد، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم” لا نورث ما تركنا فهو صدقة” رواه مسلم، أي شيء تركناه لبيت المال، لا يأخذ أولادنا شيئا منه، إذا الأنبياء لا يورثون، كيف تكون الوراثة إذا، لأنه في الآية قال ” يرثنى ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا ” وهو إنا معشر الأنبياء لا نورث من جهة المال، ما لنا ميراث، لو مات نبي وله مال لا تقسم تركته على أولاده وزوجاته، ماله للمسلمين، لبيت المال، وقول زكريا أن يرث العلم من بعدى.
ويرث النبوة من بعدي، ويرث قيادة بني إسرائيل من بعدي، وكذلك قوله تعالى كما جاء فى سورة النمل ” وورث سليمان داود ” ليس معناه ورث عنه المال، وإنما وراثة النبوة، فنبى الله يحيى جاء بعد زكريا عليهما السلام، وورث النبوة، ولكن لماذا لا يورث الأنبياء؟ وهو لأن الله تعالى بعثهم مبلغين، وأمرهم ألا يأخذوا أجرا، فهو سبحانه وتعالى القائل فى سورة الأنعام ” قل لا أسألكم عليه أجرا ” وقال تعالى فى سورة الشعراء ” وما أسألكم عليه من أجر ” فلئلا يظن الناس أن الأنبياء يجمعون المال لأولادهم، فسبحانه وتعالى قطع الطريق على من يظن أن الأنبياء يجمعون الأموال، أو يريدون أولادهم بها، وكان لما حصل هذا النداء من نبى الله زكريا عليه السلام كما جاء فى سورة آل عمران” فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ” وقال الله تعالى كما جاء فى سورة الأنبياء “فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه ” فقد أصلحها الله بعد أن كانت عاقرا، فصارت ولودا، أصلحها للحمل والولادة، كانت الإجابة عن طريق الملائكة، نادت زكريا بصوت يسمعه، وخاطبته مشافهة، وهو في محل خلوته وعبادته، وفي مجلس مناجاته وصلاته، وبشرته من الله، أن الله يبشرك بيحيى، وهو اسم جديد على البشرية، ما سبق أحد في البشرية سمى يحيى قبلك، والاسم من الله نزلت البشارة به.
لأنه جاء قبل أن يولد، وهذا يعني أن نبى الله زكريا عرف أنه سيولد له ولد، وأنه سيكون ذكرا، والاسم موجود جاهز من الملائكة، فقال قتادة سماه يحيى لأن الله أحياه بالإيمان، وبشره على يد الملائكة باسم موافق للمسمى، يحيى حياة حسية فتتم به المنة، ويعني لا يموت صغيرا، أو يسقط جنينا، يحيى حياة حقيقية، وحياة القلب والروح بالوحي والعلم والدين، لم يسمى أحد قبله بهذا الاسم، وهذا من تمام البشارة، ومن الاتصاف بالصفات الجميلة، إذا يحيى سيأتي ويصدق ويخبر بكلمة من الله، وهى عيسى عليه السلام فهو الكلمة، ويبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله، فإذا يحيى سيبشر بعيسى، ويصدق بعيسى، الدليل على ذلك قوله تعالى كما جاء فى سورة آل عمران “إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها فى الدنيا والآخرة ومن المقربين ” إذا عيسى الكلمة لأنه خلق بالكلمة، ولذلك قيل كلمة الله لأنه خلق بكلمة الله كن، كما جاء فى سورة آل عمران” إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ” فيحيى أول من صدق بعيسى ابن مريم، وكانت البشارة بيحيى متضمنة للبشارة بعيسى، ومصدقا بكلمة من الله، وكان يحيى وعيسى ابني خالة، حتى قيل إن أم يحيى كانت تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك، لعلها رؤيا رأتها، يعني حتى أن تصديق يحيى بعيسى وهو جنين.
ويحيى سيد قال تعالى “وسيدا وحصورا” أى وسيدا وحكيما تقيا، وسيدا في العلم والعبادة، وسيدا في الفقه والعلم، كريما على الله تعالى من فضلاء الرسل، وكرامهم، فهو معصوم من الذنوب والشهوات، وليس معناه أن فيه نقص وعيب، كما قال بعضهم أنه لا آلة له، وهذا كلام لا يليق، ونقص وعيب، وإنما المقصود بقوله وحصورا، بمعنى ليس به شهوة للنساء، ولا يأتيه الحرام من هذه الجهة، وهو بعيد عن آثام الشهوات، ومطهر ومبرأ من آثار الشهوات، فهو حصور لا تشغله شهوات النساء عن الآخرة، ولا عن العبادة، وهو مكفي من هذه الجهة، وليس له ميل إليها، وهكذا فإن هذه القصة العظيمة فيها فوائد كثيرة، ومنها آداب للدعاء مثل إخفاء الدعاء، وقد قال الله تعالى كما جاء فى سورة الأعراف ” ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ” وكان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت ما كانت إلا همسا بينهم وبين ربهم سبحانه وتعالى للدعاء، وإذا الناس في القنوت إذا دعا الإمام قال آمين، هذا ليس دعاء خفيا، كذلك الأئمة الذين يصرخون في الدعاء، يكون في التلاوة يمشي الهوينة، وإذا جاء الدعاء صراخ في المسجد، وزعيق هو والمأمومين كلهم صياح، هذا ليس من آداب الدعاء، لذلك قال تعالى” ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ” ونبى الله زكريا إنادى ربه نداء خفيا وبعض المأمومين في صلاة القنوت يتحمس، ويصيح بآمين،
وربما يزيد من عنده أدعية، فيمكن الإمام يدعو على الكفار، ولكن بعض الناس فعلا لا يملكون أمرهم، ولا يتفطن لآداب الدعاء، ويحولها إلى خطبة، ولذلك ينبغي خفض الصوت بالدعاء، لأنه أعظم في الأدب والتعظيم عند الملوك ألا ترفع الأصوات عندهم، ومن رفع صوته لديهم مقتوه، ولله المثل الأعلى، فإذا كان يسمع الدعاء الخفي، فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به، وهو أبلغ في الخشوع، وهو روح الدعاء، ولبه، ومقصوده، والخاشع الذليل يسأل مسألة المسكين الذي انكسر قلبه، وذلت جوارحه، وخشع صوته، حتى إن لسانه لا يكاد يطاوعه بالنطق، وقلبه يسأل مبتهلا، وصوته خفيض، وكذلك فإنه أبلغ في الإخلاص، وليس معنى هذا طبعا أن الإمام لا يسمع المأمومين، يسمع المأمومين لكن لا يصيح، لا هو ولا المأمومون، والإنسان إذا دعا في نفسه أيضا يدعو دعاء خفيا، يدعو دعاء لا يكاد يسمع إلا همسا، وهو أقرب إلى الإخلاص، وكذلك في فائدة جيدة للغاية في الدعاء بالصوت الخفيض، وهو يقين العبد أن الله تعالى يسمع مع أن الله عز وجل على عرشه، وهذا في الأرض يدعو، فإذا دعا بصوت خفيض هذا زيادة وأبلغ في إيمانه، أن الله تعالى يسمعه مع أنه على عرشه في السماء، ولكنه قريب منه يسمعه، ولو كان يهمس همسا، فلما استحضر القلب قرب الرب همس، وصار النداء خفيا، وقال النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم للصحابة لما رفعوا أصواتهم بالتكبير في السفر.
“اربعوا على أنفسكم” يعني خفضوا الصوت، هونوا هونا أما إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ” إنكم تدعون سميعا قريبا “رواه البخاري ومسلم، وقال الله تعالى كما جاء فى سورة البقرة ” وإذا سألك عبادى فإنى قريب ” والأصل أنه إذا سألك عبادي قل، لماذا حذفت قل؟ للدلالة على زيادة القرب، حتى قل حذفت، يعني أنه قريب جدا، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته” رواه أحمد، وهذا القرب قرب خاص من الصالحين المخلصين، وكذلك فإن الصوت الخفيض بالدعاء أعون على الاستمرار، لأنه إذا رفع بح وما استطاع أن يتكلم كثيرا، ولا يسأل كثيرا لأنه يتعب مع الصوت المرتفع، ولذلك تجد بعض الناس الذين يدعون حول الكعبة بعد فترة يبدأ السكوت يطول والدعاء يقل، مثل هؤلاء المطوفين بالقطارة، فإذا كان الدعاء بصوت خفيض كان ذلك أدعى للمزيد من الاستمرار، ومزيد من الدعاء، وأبعد عن التعب، ثم إنه أبعد عن القواطع، والمشوشات لأنه ربما إذا رفع صوته شوش على غيره، فإذا الواحد صار يدعو بالطواف بدعاء مرتفع شوش على من حوله، ومع ذلك هؤلاء يأتون كأنهم يفتحون البلد بالتكبير، ويرفعون الصوت، ولذلك ينبغي نصحهم، ويقال كما جاء فى سورة البقرة ” وإذا سألك عبادى فإنى قريب ” فلا داعي للصياح، لا ترفع صوتك، هذه ليست بحرب ترفع الصوت بالتكبير، وكذلك فإنه أعظم في جمع النفس على الله، والإقبال عليه، وقطع التشويش، وكلما اجتمع قلبه على الله تعالى كان أكثر تأثرا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى