مقال

نظرة تأمل مع الخضر عليه السلام ” الجزء الرابع “

قصة الخضر عليه السلام

نظرة تأمل مع الخضر عليه السلام ” الجزء الرابع “
إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الرابع مع الخضر عليه السلام، وقد توقفنا مع نبى الله موسى والخضر عليهما السلام وقد تابعا المسير حتى وصلا إلى قرية رفض أهلها ضيافتيهما، فرأى الخضر فيها جدارا مائلا يوشك على السقوط فعدل ميله وأخبره موسى عليه السلام لو أنه أخذ أجرا على فعله لتمكنا من الحصول على الطعام الذي رفض أهل القرية تقديمه لهما، فقال الله تعالى كما جاء فى سورة الكهف “فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لأتخذت عليه أجرا” فما كان من الخضر عليه السلام إلا أن أخبره بأن لحظة فراقهما قد حانت وسيوضح الحكمة في جميع الأفعال التي أنكرها عليه، فقال الله تعالى كما جاء فى سورة الكهف “قال هذا فراق بينى وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا” فأما السفينة والضرر الذي ألحقه بها فما كان ذلك إلا للتخلص من ظلم ملك كان يأخذ كل سفينة صالحة من أهلها عنوة فأراد أن يجعل فيها عيبا ليغض طرف هذا الملك عنها، وإن حصل ذلك سارع أهل السفينة لإصلاحها والانتفاع بها، فقال الله تعالى كما جاء فى سورة الكهف “أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا” وقتله للغلام كان لأنه كان جاحدا بالله وكان أبواه مؤمنين فيخشى أن يتبعاه في دينه حبّا به وحاجة إليه فأراد الله تعالى أن يرزقهما بمن هو خير منه دينا وبرّا.

فقال الله تعالى كما جاء فى سورة الكهف “وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا، فأردنا أن يبلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما” وأما الجدار الذي عدل ميله فكان تحته كنز ليتيمين يعيشان في المدينة، وهذا الكنز كان ذهبا كما قال عكرمة رضي الله عنه، وقال ابن عباس رضي الله عنه الكنز كان علما، وقال أبو ذر الغفارى رضي الله عنه كان علما مكتوب على لوح من ذهب، وأراد الله تعالى أن يحفظه لهما حتى يبلغا وذلك بسبب الصلاح الذي كان عليه أبوهما، وفي ذلك دلالة على أن الله تعالى يتكفل بحفظ ذرية العبد الصالح، وقد ختم الخضر حديثه مع موسى عليه السلام بأن كل ما فعله لم يكن إلا بأمر الله تعالى، فقال الله تعالى كما جاء فى سورة الكهف “وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين فى المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمرى ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا” وقد اختلف العلماء في المكان الذي التقى فيه نبى الله موسى عليه السلام بالخضر على ثلاثة أقوال، وهي أنه التقى به عند مجمع البحرين، وهو المكان الذي يلتقي فيه بحر فارس شرقا وبحر الروم غربا وهو قول قتادة وغيره، وذهب محمد القرظي إلى أن مجمع البحرين في بلاد المغرب عند طنجة، ومجمع البحرين يقع في إفريقية وهو قول أبي بن كعب، أو في طنجة وهو قول محمد بن كعب، أو هما نهرا الكرّ والرس.

الذين يصبان في البحر وهو قول السدى، وقيل أن مجمع البحرين هما بحر الروم وهو البحر الأبيض، وبحر القلزم وهو البحر الأحمر وتدعى المنطقة التي يلتقيان فيها بالبحيرات المرّة وبحيرة التمساح، أو أن مجمع البحرين في البحر الأحمر في المكان الذي يلتقي فيه خليج العقبة مع خليج السويس لأن بني إسرائيل عندما غادروا مصر استقروا في هذه المنطقة التي شهدت تاريخهم وهذا قول سيد قطب صاحب كتاب ظلال القرآن، وأن ما يحتج به على نبوة الخضر عليه السلام، هو أن الخضر عليه السلام أقدم على قتل ذلك الغلام وما ذاك إلا للوحي إليه من الملك العلام، وهذا دليل مستقل على نبوته، وبرهان ظاهر على عصمته، لأن الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفوس، بمجرد ما يلقى في خلده لأن خاطره ليس بواجب العصمة إذ يجوز عليه الخطأ بالاتفاق، ولما أقدم الخضر على قتل ذلك الغلام الذي لم يبلغ الحلم، علما منه بأنه إذا بلغ يكفر ويحمل أبويه عن الكفر لشدة محبتهما له فيتابعانه عليه ففي قتله مصلحة عظيمة تربو على بقاء مهجته، صيانة لأبويه عن الوقوع في الكفر وعقوبته، دل ذلك على نبوته وأنه مؤيد من الله بعصمته، وقد رأيت الشيخ أبا الفرج ابن الجوزي طرق هذا المسلك بعينه في الاحتجاج على نبوة الخضر وصححه، وحكى الاحتجاج عليه الرماني أيضا، وأنه لما فسر الخضر تأويل تلك الأفاعيل لنبى الله موسى عليه السلام، ووضح له عن حقيقة أمره وجلى.

فقال بعد ذلك كله ” رحمة من ربك وما فعلته عن أمرى” يعني ما فعلته من تلقاء نفسي، بل أمر أمرت به وأوحى إلي فيه، فدلت هذه الوجوه على نبوته، ولا ينافي ذلك حصول ولايته، بل ولا رسالته كما قاله آخرون، وأما كونه ملكا من الملائكة فقول فغريب جدا، وإذا ثبت نبوته كما ذكرناه لم يبق لمن قال بولايته، وإن الولي قد يطلع على حقيقة الأمور دون أرباب الشرع الظاهر، مستند يستندون إليه، ولا معتمد يعتمدون عليه، وأما الخلاف في وجوده إلى زماننا هذا، فالجمهور على أنه باق إلى اليوم، قيل لأنه دفن آدم بعد خروجهم من الطوفان، فنالته دعوة أبيه آدم بطول الحياة وقيل لأنه شرب من عين الحياة فحيى، وذكروا أخبارا استشهدوا بها على بقائه إلى الآن، وقد قال البيهقي لما أراد نبى الله موسى عليه السلام أن يفارق الخضر، قال له موسى أوصني، قال له الخضر عليهما السلام، كن نفاعا ولا تكن ضرارا، كن بشاشا ولا تكن غضبان، ارجع عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة، وفي رواية من طريق أخرى زيادة قال له ولا تضحك إلا من عجب، ثم قال الخضر، يا موسى إن الناس معذبون في الدنيا على قدر همومهم بها، وقد قال نبى الله موسى للخضر، أوصني، فقال يسر الله عليك طاعته، وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” قال أخي موسى يا رب، وذكر كلمته فأتاه الخضر وهو فتى طيب الريح، حسن بياض الثياب، مشمرها، فقال السلام عليك ورحمة الله يا موسى بن عمران.

إن ربك يقرأ عليك السلام، قال موسى هو السلام وإليه السلام، والحمد لله رب العالمين، الذي لا أحصي نعمه، ولا أقدر على أداء شكره إلا بمعونته، ثم قال موسى أريد أن توصيني بوصية ينفعني الله بها بعدك، فقال الخضر يا طالب العلم إن القائل أقل ملامة من المستمع، فلا تمل جلساءك إذا حدثتهم، واعلم أن قلبك وعاء فانظر ماذا تحشو به وعاءك، واعزف عن الدنيا وانبذها وراءك، فإنها ليست لك بدار، ولا لك فيها محل قرار، وإنما جعلت بلغة للعباد والتزود منها ليوم المعاد، ورض نفسك على الصبر تخلص من الإثم، يا موسى تفرغ للعلم إن كنت تريده، فإنما العلم لمن تفرغ له، ولا تكن مكثارا للعلم مهذارا، فإن كثرة المنطق تشين العلماء، وتبدي مساوي السخفاء، ولكن عليك بالاقتصاد، فإن ذلك من التوفيق والسداد، وأعرض عن الجهال وماطلهم، واحلم عن السفهاء، فإن ذلك فعل الحكماء، وزين العلماء، وإذا شتمك الجاهل فاسكت عنه حلما، وجانبه حزما، فإن ما بقي من جهله عليك وسبه إياك أكثر وأعظم، يا ابن عمران ولا ترى أنك أوتيت من العلم إلا قليلا، فإن الاندلاث والتعسف من الاقتحام والتكلف، يا ابن عمران لا تفتحن بابا لا تدري ما غلقه، ولا تغلقن بابا لا تدري ما فتحه، يا ابن عمران من لا ينتهي من الدنيا نهمته، ولا تنقضي منها رغبته، ومن يحقر حاله، ويتهم الله فيما قضى له كيف يكون زاهدا هل يكف عن الشهوات من غلب عليه هواه؟ أو ينفعه طلب العلم والجهل قد حواه؟

لأن سعيه إلى آخرته وهو مقبل على دنياه، يا موسى تعلم ما تعلمت لتعمل به، ولا تعلمه لتحدث به، فيكون عليك بواره، ولغيرك نوره، يا موسى بن عمران اجعل الزهد والتقوى لباسك، والعلم والذكر كلامك، واستكثر من الحسنات، فإنك مصيب السيئات، وزعزع بالخوف قلبك، فإن ذلك يرضى ربك، واعمل خيرا فإنك لا بد عامل سوء، قد وعظت إن حفظت، قال فتولى الخضر، وبقي موسى محزونا مكروبا يبكي، ولكن هذا الحديث لا يصح وقيل إنه من صنعة زكريا بن يحيى الوقاد المصري، وقد كذبه غير واحد من الأئمة، والعجب أن الحافظ ابن عساكر سكت عنه، وإن هناك العديد من الدروس المستفادة من قصة نبى الله موسى عليه السلام والخضر، ومنها الحرص على طلب العلم والاستزادة منه والرحلة إليه، وتحمل المشاق والصعاب في سبيل تحصيله، والسعي للقاء العلماء، ومجالستهم باحترام وأدب، وكذلك الحرص على عدم نسبة الأمور المكروهة كالنسيان إلى الله تعالى تنزيها له وتأدّبا معه، حتى وإن كان مقدرا منه، وضبط النفس على تقبل عذر الناسي تجملا بالأخلاق العالية لا سيما أن النسيان قد ورد في حق الأنبياء عليهم السلام الحرص على تقديم مشيئة الله تعالى على كل ما ينوي العبد القيام به بقول “إن شاء الله” وكذلك مشروعية الإفصاح عن التعب والشعور بالألم والمرض ونحوهما على ألا يرافق ذلك ما فيه تسخُط وعدم رضا بالقضاء والقدر، ومشروعية طلب الضيافة والطعام حال الحاجة.

ولا مذمة في ذلك، والحرص على عدم ترك فعل الخير والإحسان في حق من اتصف بالبخل و اللئم في التعامل، وأيضا مشروعية إلحاق الضرر والتعييب بمال الغير إن كان خيارا لتفويت ما هو أشد منه ضررا، وكذلك مشروعية التزود بالطعام والشراب حال السفر حيث أن ذلك لا يتصادم مع عقيدة التوكل، وأيضا تواضع التلميذ لمعلمه حال كونه أكثر أو أقل مرتبة منه، وإفصاح المعلم لتلميذه حال امتناعه عن تعليمه ما يخشى عليه في عدم تحمّله، وكذلك سعي العبد إلى كل ما فيه مرضاة الله سبحانه وتعالى من طلب علم ونحوه، كما ويؤمن لنفسه الإعانة والقوة فلا يحل عليه التعب والإعياء سريعا، وتوجه المسكين إلى عمل معين أو امتلاكه شيئا يكسب منه رزقه الذي لا يكفي لسد احتياجاته لا يخرجه من دائرة المسكنة، وكذلك الجرأة في قول الحق وإنكار المنكر كما فعل نبى الله موسى عليه السلام، بإنكار أفعال الخضر ظنا منه أنها منكرة، وإن قصة نبى الله موسى عليه السلام، لم تذكر في القرآن الكريم فحسب، إنما ذكرت أيضا في الأحاديث النبوية الصحيحة التي احتوت على معلومات إضافية أيضا، وكذلك من الدروس المستفاده هو ارتكاب المرء جرما معيّنا في حق من أحسن إليه يجعل جرمه أكثر سوءا، وأيضا جواز حفظ المال وتوفيره في حق المسلم بشرط عدم التساهل في إخراج زكاته، وهكذا كان الخضر هو العبد الصالح الذي ذكره الله تعالى في سورة الكهف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى