مقال

فى طريق الاسلام ومع مكارم الأخلاق وبناء الحضارات ” الجزء الخامس “

إعداد / محمـــد الدكـــروى

ونكمل الجزء الخامس مع مكارم الأخلاق وبناء الحضارات، ولقد أرسل الله عز وجل نبيه نوح عليه السلام إلى أهل الأرض وهو أول رسول أرسله الله تعالى إلى أهل الأرض بعدما وقع الشرك فيهم، فدعا إلى توحيد الله عز وجل وأنكر الشرك بالله، وأقام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى توحيد الله وطاعته وترك الإشراك به ومعصيته، ثم بعث الله تعالى الرسل عليهم الصلاة والسلام بعد ذلك كلهم يدعون إلى توحيد الله وطاعته وترك ما نهى عنه سبحانه وتعالى كما قال عز وجل فى كتابه الكريم ” ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت” وقال تعالى أيضا فى كتابه العزيز ” وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون” ثم ختمهم جميعا بأفضلهم وإمامهم نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو خاتم الأنبياء وخاتم المرسلين ليس بعده نبي ولا رسول كما قال الله عز وجل فى كتابه الكريم ” وما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين” وإن خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، هو خاتم المرسلين لأن كل رسول نبي ولا ينعكس فكل رسول نبي وليس كل نبي رسول، وخاتم النبيين هو خاتم المرسلين عليهم الصلاة والسلام، والدعوة التي دعا إليها صلى الله عليه وسلم، هي الدعوة التي دعا إليها إخوانه المرسلون وهي توحيد الله عز جل والإخلاص له وفعل ما أمر به سبحانه من الطاعات وترك ما نهى عنه من المعاصي، وأما عن قوله عز وجل ” وإنك لعلى خلق عظيم ” فإنه عن السيدة عائشة رضى الله عنها قالت.

“ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال” لبيك ” ولذلك أنزل الله عز وجل “وإنك لعلى خلق عظيم” وفى قوله تعالى “وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك” فقد نزلت حين أراد الكفار أن يعينوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصيبوه بالعين، فنظر إليه قوم من قريش، فقالوا ما رأينا مثله ولا مثل حججه، وكانت العين في بني أسد حتى إن كانت الناقة السمينة والبقرة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول يا جارية خذي المكتل والدرهم فأتينا بلحم من لحم هذه، فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر، وقال الكلبي كان رجل من العرب يمكث لا يأمل يومين أو ثلاثة، ثم يرفع جانب خبائه فتمر به النعم فيقول ما رعي اليوم إبل ولا غنم أحسن من هذه، فما تذهب إلا قريبا حتى يسقط منها طائفة وعدة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بالعين ويفعل به مثل ذلك، فعصم الله تعالى نبيه وأنزل هذه الآية، وفى قوله تعالى ” وإنك لعلى خلق عظيم” فيه مسألتان، فالأولى فى قوله تعالى “وإنك لعلى خلق عظيم” قال ابن عباس ومجاهد ” على خلق ” أى على دين عظيم من الأديان، وليس دين أحب إلى الله تعالى ولا أرضى عنده منه، وفي صحيح الإمام مسلم رخمه الله، عن السيدة عائشة رضى الله عنها قالت “أن خلقه كان القرآن” وقال الإمام علي بن أبى طالب رضي الله عنه وعطية هو أدب القرآن، وقيل هو صلى الله عليه وسلم رفقه بأمته وإكرامه إياهم، وقال قتادة هو ما كان صلى الله عليه وسلم يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه مما نهى الله عنه.

وقيل أي إنك صلى الله عليه وسلم على طبع كريم، وهكذا قال الماوردي وهو الظاهر، وإن حقيقة الخلق في اللغة هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الأدب يسمى خلقا، لأنه يصير كالخلقة فيه، وأما ما طبع عليه من الأدب فهو الخيم بالكسر، وهو السجية والطبيعة، لا واحد له من لفظه، ومعنى وخيم هو اسم جبل فيكون الخلق الطبع المتكلف، والخيم الطبع الغريزي، وقد أوضح الأعشى ذلك في شعره فقال وإذا ذو الفضول ضن على المو لى وعادت لخيمها الأخلاق، وقد قيل أن السبب الرئيسي لنزول سورة القلم؟ هو أنه حينما علم كفار قريش ما حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء من نزول جبريل عليه السلام، عليه وتبليغه الرسالة، اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالجنون وأنه يدعي النبوة، فنزلت سورة القلم لتثبيته والدفاع عنه، وردا على كفار قريش وإنذارا لهم بالعذاب على كفرهم وجحودهم، وكذلك فإن سبب نزول آية” وإنك لعلى خلق عظيم” ولماذا وصف الله رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بأنه صاحب خُلق عظيم؟ فقد نزلت هذه الآية تذكيرا من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم بعظيم خُلقه من حياء وكرم وشجاعة وصفح وحلم وكل خُلق جميل، فقد كان أحسن الناس خُلقا وكان خلقه القرآن، ولقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الهدف من بعثته هو غرس مكارم الأخلاق في أفراد المجتمع، أي أرسلت لأجل أن أكمل الأخلاق بعد ما كانت ناقصة، وأجمعها بعد التفرقة، وقد وقف العلماء عند هذا الحديث قائلين لماذا حصر النبي صلى الله عليه وسلم بعثته في مكارم الأخلاق.

مع أنه صلى الله عليه وسلم بعث بالتوحيد والعبادات وهي أرفع منزلة وأهم من الأخلاق؟ وإن الجواب هو أن التوحيد والعبادات شرعت من أجل ترسيخ مكارم الأخلاق بين أفراد المجتمع، فالغاية والحكمة الجليلة من تشريع العبادات هي غرس الأخلاق الفاضة وتهذيب النفوس، كما هو معلوم في الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها،وإن لأهمية الأخلاق أصبحت شعارا للدين فالدين المعاملة، فلم يكن الدين صلاة ولا زكاة ولا صوم فحسب، فقال الفيروز “اعلم أن الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق، زاد عليك في الدين” وهكذا تظهر أهمية الأخلاق ومكانتها في الرسالة المحمدية حتى أصبحت شعارا للدين تمثله كله، وكثيرا ما نقرأ وندرس ونتعلم القيم والأخلاق ولكن هل طبقنا ذلك عمليا في واقعنا وحياتنا اليومية ؟ فإننا لو نظرنا إلى حياتنا المعاصرة لوجدنا انفصالا بين ما نقرأه ونتعلمه ونتعبد به، وبين ما نطبقه على أرض الواقع، فكلنا نقرأ في الأخلاق، وكلنا نحفظ آيات وأحاديث في الأخلاق، وكلنا نسمع صورا مشرقة من أخلاق النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وسلفنا الصالح رضي الله عنهم أجمعين، ولكن هل طبقنا ذلك عمليا؟ فعلينا أن نتأسى بالنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وسلفنا الصالح رضي الله عنهم في تطبيقهم العملي الواقعي لمكارم الأخلاق، فقد جعل النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم التفاوت في الإيمان بين المسلمين هو حسن الخلق، فأحسنهم خلقا هو أكملهم إيمانا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم.

“أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم” رواه الترمذي وأحمد، فالأخلاق الحسنة هى علامة على كمال الإيمان، وإن نيل السعادة والعيش في أكنافها، لا يدرك بالمنصب ولا بالجاه ولا ينال بالشهوات ومتاع الحياة ولا بِجمال المظهر ورقيق اللباس، فإنه لا ينال إلا بلباس التقوى ورداء الخُلق، وعمل صالح وقول حسن، فقال تعالى فى سورة الحج ” اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون، وجاهدوا فى الله حق جهاده” فإن الأخلاق العظيمة هى سبب في محبة الله للعبد، وإذا أحبك الله وفقك وسددك وأعانك، فقال صلى الله عليه وسلم “أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقا” رواه الحاكم والطبراني، وإن أخطر شيء على أخلاق الناس هو هذه الدنيا بمتاعها ومغرياتها، بزخارفها وشهواتها مِن النساء والبنين، وإن الغلو في حب الدنيا هو رأس كل خطيئة، والتنافس عليها أساس كل بلية، فإنه من أجل متاع الدنيا يبيع الأخ أخاه، ويقتل الابن أباه، ومن أجلها يخون الناس الأمانات وينكثون العهود، ومن أجلها يجحد الناس الحقوق وينسون الواجبات، وإن الكل مشتاق إلى الجنة، بل الكل يطمح إلى أعالي الجنان، لأن الجنة درجات، فمن أراد قصرا في أعلى الجنة فليحسن خلقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه” رواه أبو داود والطبراني والبهقي وحسنه الألباني، فأكثر ما يدخل الناس الجنة شيئان اثنان مهمان، تقوى الله وحسن الخلق.

فتقوى الله وحسن الخلق سببان رئيسيان لدخول الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال “سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال صلى الله عليه وسلم “تقوى الله وحسن الخلق” وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال صلى الله عليه وسلم ” الفم والفرج” رواه الترمذي وأحمد وابن حبان وحسنه الألباني، فإن حسن الخلق هو أساس الخيرية والتفاضل بين الناس يوم القيامة، فهنيئا لصاحب الخلق مرافقة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة، ويا سعادة من كان مجلسه في الجنة قريبا من رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم “إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا” رواه الترمذي وحسنه الألباني، وإن الناس يوم القيامة في وجل وفي خوف وفزع الكل يتمنى حسنة واحدة تنفعه في ذلك اليوم، الكل ينظر إلى ميزانيه هل سيثقل أم سيخف، فالمفلح من ثقلت موازينه، والخاسر من خفت موازينه، فقال تعالى كما جاء فى سورة الأعراف ” والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون” فمن سيفلح ذلك اليوم يا ترى؟ فإنه صاحب الخلق الرفيع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق” رواه الترمذي وابن حبان وصححه الألباني، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتثل أمر الله تعالى في كل شأنه قولا وعملا، ويأتمر بكل أخلاق حسنة ورد الأمر بها في القرآن الكريم، وينتهي عن كل أخلاق سيئة ورد النهي عنها في القرآن الكريم.

لذا كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن، وأيضا فإن الالتزام بالأخلاق الحسنة امتثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي يأمر بها ويحض عليها، فعن أبي ذر الغفارى رضي الله عنه قال، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم “اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن” فإن الأخلاق الحسنة هى أحد مقومات شخصية المسلم، فالإنسان جسد وروح، ظاهر وباطن، والأخلاق الإسلامية تمثل صورة الإنسان الباطنة، والتي محلها القلب، وهذه الصورة الباطنة هي قوام شخصية الإنسان المسلم، فالإنسان لا يقاس بطوله وعرضه، أو لونه وجماله، أو فقره وغناه، وإنما بأخلاقه وأعماله المعبرة عن هذه الأخلاق، فيقول الله تعالى كما جاء فى سورة الحجرات ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ” ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم” ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا “لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجُعل الذي يُدهده الخراء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عُبّية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب” وإن ارتباط الأخلاق بالعقيدة وثيق جدا، لذا فكثيرا ما يربط الله عز وجل بين الإيمان والعمل الصالح، الذي تعد الأخلاق الحسنة أحد أركانه، فالعقيدة دون خُلق، شجرة لا ظل لها ولا ثمرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى