مقال

رسالة من داخل السّجن    (رواية قيد الإنجاز

 

بقلم: رشيد (فوزي) مصباح

ــــــــــــــــــــــــ

الجزء الخامس

(1)

قبل انعقاد الجلسة بيوم أو يومين يأتي ضّابط السّجن بقائمة المطلوبين للمحاكمة، وبعد تلاوة الأسماء تبدأ حمّى الاستعداد. باعتبار أن المساجين يحظون بأولوية قبل غيرهم في المحاكمة. ويتهيّأ السّجين لهذا اليوم الفاصل، تهيُّؤ العروس ليلة الدّخلة مع الفارق الواضح في”التستوستيرون” و “الأدرينالين”.

في السّاحة المحيطة بالأصوار الغليظة ومن فوقها الأسلاك، صوت الضّابط يشقّ الأسماع. وبعد انصراف الضّابط جاء دور الحلاّق، وهو من قدامى السّجناء المعوّل عليهم في المهنة الرّقيقة، فقام يجزّنا الواحد تلو الآخر بعد فصلنا عن بعضنا كالخِراف الأسترالية.

عند دخول الزنزانة في المساء، هرع كل من ورد اسمه على القائمة إلى الرّفوف القديمة يتفقّد ما لديه من ملابس جديدة يسْتر بها وجهه، سترة أو سروال أو حذاء ولو قديم يقوم بتلميعه استعدادا ليوم الجلسة، وحرصا منه على الظّهور بمظهر يليق بسمعته وكرامته و سمعة وكرامة أهله. ولا يهمّ حتى وإن كان قبلها مرتعا لجحافل القُمّل، أو من الذين يتقاسمون الفراش مع حضرة “البريفو” في اللّيل والنّاس نيّام.

تقدّم رجال الشّرطة بالأصفاد اللّامعة في الصّباح الباكر، وشرعوا في تصفيد اليدين، مثْنى مثْنى. كما يُسفِِّد “الشَوَّايْ”* عندنا اللّحم، قطعةً قطعة.

كنّا أربعة، ركبنا في الخلف، ولم نشعر حتى توقّفت بنا المركبة. داخل المحكمة، نزلنا كطيور تمّ اطلاقها من قفص، أو كمن كان مريضا و نشِط من عِقال. داخل غرفة، شبيهة بتلك التي كان الإغريق يحبس فيها العبيد قبل الزجّ بهم في مسرح السّباع والأسود، دفعونا بلا شفقة ولا رحمة؛ والعبيد هنا هم المساجين بالطبع، والسباع والضّباع والأسود هم كل ذي ظفر وناب.

وفي كل مرة ينادي المنادي باسم سجين، ينزع الشّرطي من يده الأصفاد، ثم يدفع به الى داخل القاعة، المليئة عن آخرها بأنواع المشجّعين و المعجبين وبعض الفضوليين… إلى الشّامتين و المتسلّين. وجاء دوري لأُصارع قدري مع “دُبِّي” الكبير، والذي أراد أن يحميني بزعمه من ” الميرْ”*. ووقفتُ خلف القضبان، جنبا إلى جنب معه؛ (وقد أشرتُ إليه في الصفحات الأولى حين كتبتُ قائلا: “سمعتم بقصّة الدّب وصديقه الحطّاب طيّب القلب المسكين!).

بحكم تجاربي المريرة في الحياة، عرفتُ أنّ جلّ المصائب إن لم أقل كلّها، من التي تأرّق الإنسان وتتسبّب له في أنواع الهموم والمآسي، مصدرها رفقاء السّوء. وللمرء دور في كلّ ما يحصل له باعتباره المسئول عن أفعاله من الآخر، وباعتباره أيضا سيّد قراراته. سيّما فيما يتعلّق باختيار الصّاحب والرّفيق والنّديم. ولا أظنّ أن من يخالط الرّجال العظماء والصّالحين يضيع. والمرء على دين خليله، والصّاحب ساحب – كما جاء في الحديث الشّريف – ، وقل لي من تصاحب اقل لك من انت: [dis-moi qui tu fréquentes, je te dirai qui tu es] – كما في المثل الفرنسي القديم. لذلك لم أجد سبيلا إلى النّكران لأنّني كنتُ كالبغيّ أجلّكم الله ورفع من قدركم، تلك “القحْبة” التي لا تعفّ ولا تمل من كثرة الأحباب والأصحاب. حتى أن بعض المتهكّمين طلب منّي ذات يوم، وهو يرى كثرة إقبالي وتودّدي إلى كل من يكشّر لي عن أنيابه ظنّا منّي أنه يبتسم، أن أترشّح لعلّني أفوز بالانتخابات. و أفتح قوسا هنا، بحجم العبثْ الذي ميّزني والأخطاء التي ارتكبتها بصحبة الأراذل و تكدّرت حياتي بسببهم، لألقي اللّوم على الآباء الذين يعوّلون على النّصائح التي يقدّمونها في البيت فقط، أو على المعلّم الغلبان. ويغضّون الطّرف عن علاقات الأبناء المشبوهة، سواء داخل أو خارج البيت. والدّافع في هذا التغاضي هو عواطفهم العمياء، وحبّهم اللاّمشروط تجاه فلذات أكبادهم.

وقفتُ جنْب نفر من المتّهمين؛ رئيس المجلس الشعبي الضّعيف، ونائبه المستهتر، وصاحب دعوتي المتهتّك، والذي انهال عليه القاضي بوابل من الأسئلة وراح يحاول أن يحييي فيه ضميره الغائب ولعلّه يقرّ بالحقيقة. ولكن :

لَقَد أَسمَعتَ لَو نادَيتَ حَيّاً ** وَلَكِن لا حَياةَ لِمَن تُنادي

ولو نارٌ نفخت بها أضاءت ** ولكن أنت تنفخ في الرّماد

كما قال [بن الصمة]

وكذلك الأمر بالنسبة لرئيس البلدية الذي استغلق عليه الكلام ولم يجد ما يقوله، ولا نائبه الذي لاذ بالصّمت. ما دفع بالقاضي إلى توبيخهم، لتورّطهم المخزي في المؤامرة الدّنيئة. وهو ما أثلج صدري وولّد في قلبي الرّاحة والإطمئنان. وشجّعني ذلك على التمسّك بأقوالي، والثّبات على الحق.

والحقيقة أنّني لم أطلب رشوة أبدا، لا باسمي الخاص، ولا باسم رئيس المجلس الشّعبي. وكنتُ في انسجام تام مع أقوال المتّهمين الآخرين، إلاّ غريمي، والذي بقي مصرّا على مزاعمه، مزاعم الباطل والزّور. وعبثا راح يحاول رئيس المحكمة ثنْيَه عن إدّعائه وأكاذيبه.

وتمّ تعليق الجلسة، لتُستأنف بعد الظهيرة. ووجدنا فيها فرصة، لإراحة أقدامنا من الوقوف المضني.

وبعد عودة الطّاقم بقي نفس الكلام، والأسئلة التي ميّزت المحاكمة الطّويلة تقريبا. ثُمّ قام المحامون يصولون ويجولون بعد إعطائهم الكلمة من طرف الرّئيس، ورغم ذلك، تمّ إدانتي بثمانية أشهر نافذة مع إجراء تعديل في التّهمة، من جريمة “الرّشوة” إلى جنحة “النّصب والاحتيال”. حتى يتمّ تبرئة “الشّايب حمّو”؛ الطّرف الأساسيّ والمحوريّ في القضيّة. وهو ما لم أستسغه حتى الآن؟!

………………………………………………

* الشَوَّايْ: الشّخص الذي يقوم بتسفيد الشّواء. غالبا ما يكون الطّاهي.

* الميرْ: رئيس المجلس الشّغبي البلدي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى