مقال

اليأس والغياب وصيرورة الزمن ..قراءة في قصة ” الغلباوي ” لإبراهيم معوض

 

بقلم ـ الدكتور محمد سيد الدمشاوي

عتبة العنوان : …( الغلباوي )
عنوان جدير بالتأمل ، يستمد من الفصحى معنى الغلبة والتفوق ، ويستمد من العامية ومن الفولكلور الشعبي معاني الحكمة والفلسفة ، وجمال المنطق ، وسبق الأنداد في الحديث ، والتفوه بما يعجب ، والذهاب بالحديث بعيدا عن مدارك العاديين.

عتبة الاستهلال :
” أُطِلُّ من شرفةِ منزلي العلويّة ” .. حالة استشراف يمارسها الراوي / السارد / بطل القصة ، من البداية ليكشف من موقعه العلويّ ، حقيقة الواقع بوضوح وصدق وتمكن ، وهو استهلال يُمهِّد لما سيأتي بعده من فصول الحكاية ، ومن ثم تأتي رسالة القص ، ورؤيوية الراوي / المُبئِّر مجملة وواضحة ومكثفة بعد هذا الاستهلال مباشرة :
” أري أن كل الحياة حول البيت تنذرني بالغياب ”

البنية السردية ورؤيوية القص :
إن حالة الاستشراف التي يمارسها الراوي / البطل تكشف بوضوح عن فلسفة الواقع الحقيقية كما يراها : الغياب / حالة الإدراك العبثي / التحول والتغير / الدائرة المفرغة التي تحكم العالم ، والتي تدور فيها الموجودات دورتها اللانهائية ، لتفقد قيمتها ومعناها وحياتها ، كما تفقد بهجتها وجمالها.
ثم يبدأ القاص في تقديم التفصيل بعد هذا الإجمال للتعبير عن سوء الواقع ؛ فالقط لم يمت ، وإنما ماتت روح من أرواحه ليعود بعدها للحياة كي يموت ثانية وثالثة … ، وقطع اللحم في يد القصاب ” كانت يوما ما ثورًا يهيج فيهز الحظيرة بخوارهِ ، وها هو يتحول إلى لحم مقطع فاقد للحياة ، حتى البطل نفسه قد ” ولد من جديد ” بعد أن اخترقت الرصاصات الثلاث جسده أثناء الحرب ، وها هو يعاوده الموت من جديد / الغياب / افتقاد الذاكرة / ضياع الحلم / نسيان الدواء / تهالك الصوت وضياعه / افتقاد البصر وعدم تمكنه من رؤية الطفل…
وهو لا يختلف في هذه الدورة العبثية عن القط الذي مات للتو ، فهو صورة منه :

” هذا الولد مثل القط بسبعة أرواح ”
إن دائرة الغياب والتحول تعصف بكل الموجودات دون رحمة ولا هوادة ، لا يستطيع مواجهتها أى نوع منها مهما كان أمره ، فالأشجار تموت لتحيا ، وتحيا لتموت: ” تذبل أوراق الحديقة كل خريف؛ لتحل محلها أوراق أخرى ”
والغلباوي / الحكيم / المنظِّر / الكاشف للحقيقة ، يموت هو أيضا بعد التنظير مباشرة ، ولسخرية المفارقة الكونية يكون موته أمام الملجأ الذي أعد ليكون آمنا وبعيدا عن الفناء:
” ملأ النشيج صدري حين تذكرت أن قائل هذه العبارة قد مات شهيدًا فور خروجه من فوّهة الملجأ الآمن الذي نقلوني إليه لاستكمال علاجي ”

فالملجأ هنا هو صورة مصغرة من هذا العالم الذي تدور فيه دائرة التغيير والتغييب والفقد ..ولا أمان في هذا الملجأ / العالم ، ولا حصانة من الموت / الفناء / الغياب.
حتى تلك “النظرة النّهمة التي يلقيها هذا الطفل نحو قطعة اللحم ” ، هي أيضا محكوم عليها بالغياب / الانكسار / خيبة الأمل ؛ حيث :

” يتطاير شررها كي يطوف بالبيت والحديقة ودكان القصاب ثم يعود منكسرا ليصطدم بطرف الرصيف المقابل ”
ويواصل الغياب / الفقد / الضياع /عمله في بطل القصة ، ليأتي على أغلى شيء يحتفظ به ، وهو وسام الشرف الذي يجسد بطولته ووجوده الحقيقي منتصرا غالبا قاهرا للأعداء ” نجمة سيناء ” ، حيث يفقد الوسام قيمته أيضا بمرور الزمن ، وسوء الواقع، وضياع القيم ، ليتحول إلى لا شيء ، لا قيمة ، لاوجود ، لا ثمن.. ولم يعد يحقق للبطل المنتصر أيّ حلمٍ يحلم به ، ولا أدنى أمنية يتمناها ؛ فلم يفلح حتى في إطعام الطفل البائس ، ولم يعد يساوي قطعة لحم صغيرة تلبي رغبة الاشتهاء لديه ، بل هو يوقع البطل رهين السخرية والاستهزاء :

” فضحك الولد ضحكة قصيرة وقال: هي فين المحفظة يا حاج بص كويس.. قرّبتُ كفي من عينيّ، فوجدتها نجمةَ سيناء ”
وهنا يصل القاص إلى قمة اليأس من الوجود، وقمة الإدراك العبثي / ضياع الحلم :
” ولكنني لم أجده، يبدو أنه طار وابتلعته التفافات الشارع ”
بل هو يوقن أنه افتقد كل أسباب الحياة والوجود ، ليتساءل في يأس وسخرية :
” تساءلت:” لم أنا هنا الآن؟ ”

ومن ثم ، يعود أدراجه في محاولة يائسة لترتيب الأمور من جديد، في محاولة لاستعادة الذاكرة المفقودة للوطن / الواقع / الذات الضائعة في متاهات الغياب / القيم الضائعة المفقودة / التغييب القاهر والمسيطر والمستمر:
” فتذكّرتُ أن الزهور في الحديقة تحتاج إلى رِيٍّ، فنثرت عليها بعض الماء ”
كما يحاول العودة للاستشراف من جديد ، لعل بارقة أمل تطل بالمكان أو الزمان:
” وعدت أصعد إلى الشرفة العلوية، وقبل أن أنسى وضعتُ حافظة نقودي في جيبي وسجّلت هذه الكلمات، فلربما يعود أو يعود الغلباوي.
لكن حالة اليأس تبدو مطبقة على القاص ، كما تصورها جملة النهاية ؛ حيث يبدو الغياب / اليأس ، مسيطرا وغالبا على حقيقة المشهد ، وقاهرا لكل ما عداه ؛ فتأتي فرضية عودة الطفل / الوطن / الأمل / الذات المفقودة / الحلم الضائع / الوجود الحقيقي / يائسة تماما ، كما هو اليأس من عودة الغلباوي / الحكيم :
” فلربما يعود أو يعود الغلباوي ”

فلسفة الرؤية :
القصة هنا تنزع إلى الرؤية الفلسفية للوجود ، لكنها تظل رهينة لفلسفة العبث واللامعقول ـ حسب ” ألبير كامو ” ـ حيث تدور الموجودات في دائرة سرمدية من العبث والضياع ، تماما كذلك العذاب الأسطوري في “أسطورة سيزيف “، وذلك البطل الذي يحاول رفع الصخرة الكبيرة حتى يصل بها إلى قمة الجبل ، فإذا بها تدحرج ثانية ، وتسقط من جديد فيعاود الصراع من جديد ، ليتجدد الألم وتتجدد المعاناة الأبدية ليتحقق غضب الآلهة ووعيدهم.
وهو ذات المعني الذي يعيد القاص صياغته بصورة مشابهة ومعاكسة في ذات الوقت ، حيث تحل سلم الهبوط محل الجبل في الصعود :

” واستدرت أتوكأ على عصاي أقصد باب النزول ، وأدعو الله أن يجعله ينتظر، وكلما حاولت أن أسرع أشعر وكأنني أسير نحو الخلف ”
والبطل أيضا يكاد يدركه الموت ، حين اخترق الرصاص جسده وعظامه ، لكنه يولد من جديد بآلامه ومعاناته:
تذكرت يوم أن قال الطبيب الميداني لزملائي على جبهة القتال: لقد ولد من جديد، ثم أعطاهم الرصاصات الثلاث التي أخرجها من بين لحمي وعظمي فقال أحدهم:هذا الولد مثل القط بسبعة أرواح ”

” ظلت روحي معبأة في جسدي …”
ومن ثم لا تكتمل الفرحة بالنصر على الأعداء ، فمع الفرحة يتجدد إحساس الحزن الشديد لموت الأصدقاء وضياع آمالهم وأحلامهم :
عدنا إلى بيوتنا بعد أيام مكلّلين بالنصر ومحملين بذكريات الأصدقاء وبعض من أجسادهم الشهيدة، كم كان لهم أحلام وآمال أخذتها الدنيا كما أخذتنا أناشيد النصر أيامًا طويلة
وتأتي البنية السردية في هذه القصة ثرية ، متعددة الرؤى ، متنوعة الشخوص ، متعددة الأزمنة والأمكنة لكنه تعدد مرهون بنقطة واحدة في الانطلاق والعوة ، فتتعد الرؤي لكنها لا تفارق رؤية الغياب ، وتتعدد الشخوص لكنها لا تختلف كثيرا عن الذات / الراوي / البطل ؛ فهي صور له ، وظلال لوجوده ، ومن ثم تنعكس إنسانيته على الموجودات من حوله ؛ فهو مثل القط ذي الأرواح السبعة ، وهو قد عاد من الحرب يحمل بعض أجساد الشهداء في نفسه وذاته ، فضلا عن أن الغياب يوحد بينه وبين كل الموجودات من حوله ؛ فيتماهى في الطبيعة وتتماهي الطبيعة فيه ؛ فالأشجار يصيبها ما أصابه من الغياب والفقد ، وحينما يعود ليرمم ذاته يذهب لري الزهور:

” فتذكّرتُ أن الزهور في الحديقة تحتاج إلى رِيٍّ ” فهو يعكس إنسانيته على كل الموجودات من حوله دون تمييز .
وتتعدد الأزمنة والأمكنة لكنها تلتقي في نقطة التقاء واحدة عبر الذات التي يتوحد فيها الزمان والمكان :
” ظلت روحي معبأة في جسدي لأكثر من نصف قرن”
بينما تصبح الشرفة هي نقطة الانطلاق والعودة والرصد والتنظير العبثي اليائس:

” وفسحتي الوحيدة هي تلك الشرفة التي أقذف رأسي من بين دفتيها ؛ كي تطوفَ البلاد وتعود ، أو لا تعود لا يهم ”
ويمتد الثراء للغة ، فتأتي منتقاة ، تتساوق مع إسقاطات القاص ، محملة بالكثير من حمولات الرؤيوية ، ومن ثم يتغول السرد على حساب الحوار ؛ فحالة التداعي المتدفق التي يعتمدها الكاتب ، والتي تبدو وكأنها عشوائية وغير مرتبة ، تغني عن الحوار المألوف ، لتصنع حوارا من نوع آخر بين مفردات البناء القصصي ، وتصارع الأحداث ، وتوحد الشخوص في ذات البطل ، وتماهيه في غيره ؛ ومن ثم فالحوار الداخلي المعتمد على التداعي المتدفق يكاد يغني عن الحوار المألوف ، بل إن الكاتب يقع في إشكالية كبرى ، ولا يحالفه التوفيق حين يحاول اصطناع حوار خارجي مدرك ، فيلجأ للفصحى مرة وللعامية أخرى مع ذات المتحاوريْن بشكل غير مبرر ، وإن كان ذلك لا ينال من عمق الرؤية القصصية وحرفية القاص المتمكن من أدواته الكتابية.اليأس والغياب وصيرورة الزمن ..قراءة في قصة " الغلباوي " لإبراهيم معوض

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى