مقال

خالد بن الوليد ومقتل مالك ” الجزء الثالث

خالد بن الوليد ومقتل مالك ” الجزء الثالث “

إعداد / محمــــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الثالث مع خالد بن الوليد ومقتل مالك، وقد توقفنا عند أنه لم تذكر هذه الرواية لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيا في هذه القضية سوى أبى بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما، وخصوصا أنها تتعلق بتصرف أكبر قادة المسلمين الذى إذا صح ما نسب إلى عمر رضى الله عنه فى اتهامه لخالد رضي الله عنه لكان جزاء هذا القائد في الشريعة الإسلامية القتل، ولا يحق للخليفة تعطيل أحكام الدين، أما بقاء المتهم في مقامه في صدارة الدولة فهذا يتناقض مع ما عُرف عن الصحابة من شدة البحث عن الحقيقة، فهل اقتدى أبو بكر رضى الله عنه بالنبى صلى الله عليه وسلم عندما لم يضع نهايةً لتقدير خالد رضي الله عنه عن تصرفه مع بني جذيمة ولم يقم الحد عليه، والمعروف أن الحادثتين متشابهتان في حيثياتهما من حيث الالتباس في إسلام القوم من وجهة نظر فئة من المسلمين، والتأكيد على عدم إسلامهم في نظر خالد رضي الله عنه على الأقل وهو أمير السرية آنذاك وإليه يعود تقدير الأمور.

وعندما تولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة بعد أبي بكر رضى الله عنه وكان رجلا قوّاما على حدود الله جريئا في الحق، وكان خالد رضي الله عنه يومئذ أميرا على عامة جيوش المسلمين في بلاد الشام فلم يرجمه بأحجاره كما توعده، ولم يقتله قصاصا بمالك وأصحابه، أما عزله عن الإمارة فلم تكن قضية مالك بن نويرة سببا من أسبابها على وجه اليقين، وتتباين المصادر أيضا فى وضع أرملة مالك بن نويرة، ويمكن أن نطرح عدة أسئلة تتعلق به مثل هل تزوج خالد رضى الله عنه أم تميم امرأة مالك أَم اتخذها محظية فحسب؟ وهل عاشرها فورا أم بعد انتهاء عدتها، وكيف تطورت العلاقة بينهما بعد ذلك؟ ويروى الطبري ويقول تزوج خالد أم تميم ابنة المنهال، وتركها لينقضي طهرها، وكانت العرب تكره النساء في الحرب وتعايره، وثمة رواية أخرى وقبض خالد امرأته اى امرأة مالك، فقيل اشتراها من الفيء وتزوج بها، وقيل إنها اعتدت بثلاث حيض ثم خطبها إلى نفسه فأجابته، فطلب من ابن عمر وأبى قتادة رضي الله عنهما

أن يحضرا النكاح فأبيا، وتجرى رواية ثالثة على لسان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أثناء قدوم خالد للاجتماع بأبى بكر حيث قال له عمر”قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته” وكأنه يتهمه بالزنى، ومع هذه النظرة العامة فإن المسألة لم تحسم بعد، لكن معظم المصادر تتحدث عن زواج، على أن الوضع الشرعي يوصف بمسألة ما إذا كان يجوز له أسر زوجة مسلم، أما الزواج من أرملة فلم يكن يحول دونه شيء إذا تم الالتزام بمدة العدة الشرعية إلا أن تكون غير مسلمة، أما معاشرة الأسيرة وهى الأَمة فلم يكن يوجد تقييد لها، وكان الاستحواذ على نساء المغلوبين من قبل المنتصر ما يزال أمرا مألوفا، وعلى هذا لا يتوافر التصرف الجرمي إلا إذا كان مالك وأم تميم مسلمين، وعند ذلك فإن عملية الزواج تكون متفرعة من أصل عملية القتل، فإن كان قتل مالك حلالا فلا شيء على خالد، وإن كان قتله حراما فجرم القتل أعظم من جرم الزواج، وجرم قتل الجماعة أخطر من جرم قتل الفرد الواحد، ومن المستبعد أن يضع خالد نفسه في موقف دقيق.

من الوجهة الشرعية، والراجح أن تكون الروايات عن زواج مع الإشارات المؤيدة لها إلى انتظار مدة الطهر إنما تم إيرادها لتدعيم وضع مالك من حيث كونه مسلما، والخلاصة أن سلسلةً من الحقائق يمكن وضعها في مواضعها المحكمة من العملية التاريخية إذ تواجه المرء أكثر من رواية لا تنسجم بالضرورة مع الصورة العامة للردة، فإذا كان خالد قد اقترف ظلما عندما قتل مالك بن نويرة فماذا يبقى إذا بعد ردة بنى تميم؟ أتراهم بالفعل كانوا مسلمين جميعا؟ وهل كان من الممكن القضاء على التذبذب لدى زعماء القبائل الذين تتحدث عنهم أكثر المصادر مودة بلغة تهديد بالغة الضآلة من قبل المدينة؟ وهل كان تجلد أبى بكر الصديق رضي الله عنه وثباته يكفيان لإدماج قبيلة تميم الكبرى من جديد في المجتمع الإسلامى؟ إنها أسئلة لا يمكن الإجابة عليها بسهولة عندما يفكر المرء فى حال المصادر ذلك لأن هدف المؤرخين كان يتمثل على ما يبدو في خفض حجم ردة بنى تميم إلى مستوى شخص مالك، بل تقديمه فى صورة المسلم الذى يُساء تقدير إسلامه.

وكان مالك قد صانع سجاح حين قدمت من أرض الجزيرة فلما اتصلت بمسيلمة لعنهما الله ثم ترحلت إلى بلادها، فلما كان ذلك ندم مالك بن نويرة على ما كان من أمره، وتلوم في شأنه وهو نازل بمكان يقال له البطاح، فقصدها خالد بجنوده وتأخرت عنه الأنصار وقالوا إنا قد قضينا ما أمرنا به الصديق، فقال لهم خالد إن هذا أمر لابد من فعله وفرصة لا بد من انتهازها وإنه لم يأتنى فيها كتاب وأنا الأمير، وإلى ترد الأخبار، ولست بالذى أجبركم على المسير، وأنا قاصد البطاح فسار يومين، ثم لحقه رسول الأنصار يطلبون منه الانتظار فلحقوا به، فلما وصل البطاح وعليها مالك بن نويرة فبث خالد السرايا فى البطاح يدعون الناس فاستقبله أمراء بنى تميم بالسمع والطاعة وبذلوا الزكوات إلا ما كان من مالك بن نويرة فإنه متحير فى أمره، متنح عن الناس فجاءته السرايا فأسروه وأسروا معه أصحابه، واختلفت السرية فيهم فشهد أبو قتادة الحرث بن ربعى الأنصارى أنهم أقاموا الصلاة، وقال آخرون إنهم لم يؤذنوا ولا صلوا.

فيقال إن الأسارى باتوا في كبولهم في ليلة شديدة البرد، فنادى منادي خالد أن أدفئوا أسراكم، فظن القوم أنه أراد القتل فقتلوهم وقتل ضرار بن الأزور مالك بن نويرة، فلما سمع الداعية خرج وقد فرغوا منهم، فقال إذا أراد الله أمرا أصابه واصطفى خالد امرأة مالك بن نويرة وهي أم تميم ابنة المنهال وكانت جملية، فلما حلت بني بها، ويقال بل استدعى خالد مالك بن نويرة فأنبه على ما صدر منه من متابعة سجاح بنت الحارث، وفى النهاية قيل لم يزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحرض الصديق ويذمره على عزل خالد عن الإمرة ويقول: إن في سيفه لرهقا، حتى بعث الصديق إلى خالد بن الوليد فقدم عليه المدينة وقد لبس درعه التي من حديد وقد صدئ من كثرة الدماء، وغرز في عمامته النشاب المضمخ بالدماء، فلما دخل المسجد قام إليه عمر بن الخطاب فانتزع الأسهم من عمامة خالد فحطمها وقال أرياء قتلت امرأ مسلما، ثم نزوت على امرأته، والله لارجمنك بالجنادل وخالد لا يكلمه ولا يظن إلا أن رأي الصديق فيه كرأى عمر.

حتى دخل على أبي بكر فاعتذر إليه فعذره وتجاوز عنه ما كان منه في ذلك، وودى مالك بن نويرة، فخرج من عنده وعمر جالس في المسجد فقال خالد هلم إلي يا ابن أم شملة، فلم يرد عليه وعرف أن الصديق قد رضي عنه، فإن الواجب على المسلم محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وموالاتهم، وإحسان الظن بهم، فإن الأصل حسن الظن بكل مسلم، فكيف بالصحابة وهم خير هذه الأمة؟ وعلى المسلم ألا يرعى سمعه للشبهات التي يراد بها الافتراء على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وخالد بن الوليد هو سيف الله، كما وصفه النبى صلى الله عليه وسلم، ففى صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال أخذ الراية زيد فأصيب, ثم أخذها جعفر فأصيب, ثم أخذ ابن رواحة فأصيب, وعيناه تذرفان حتى أخذها سيف من سيوف الله وهو خالد بن الوليد حتى فتح الله عليهم، أما قتله رضى الله عنه لبني جذيمة فهو قد اجتهد في ذلك.

خالد بن الوليد ومقتل مالك ” الجزء الثالث “

والمجتهد لا إثم عليه في خطئه، فعن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول” إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر” متفق عليه، وجاء في الحديث الآخر” إن الله وضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه “ابن ماجه, واستمر أبو بكر بخالد على الإمرة وإن كان قد اجتهد في قتل مالك بن نويرة وأخطأ في قتله كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى أبي جذيمة فقتل أولئك الأسارى الذين قالوا صبأنا صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رد إليهم ميلغة الكلب، ورفع يديه وقال ” اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد” ومع هذا لم يعزل خالد عن الإمرة، وقال ابن بطال لم يختلف العلماء أن القاضى إذا قضى بجور أو بخلاف أهل العلم فهو مردود، فإن كان على وجه الاجتهاد والتأويل كما صنع خالد بن الوليد فإن الإثم ساقط عنه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى