مقال

فلسفة الغزل في الشعر العربي القديم .. بين الحقيقة وفهم الباحثين

 

 

بقلم الدكتور : محمد سيد عبد الحميد الدمشاوي

 

بداية ..لا أريد الحديث هنا عن الغزل بوصفه فن قديم وأصيل من فنون الشعر العربي يتغنى بالحبيبة، ويعبر عن الشوق إليها، والتألم لبعدها وفراقها، ويهدف إلى وصف جسدها ومفاتنها، ومثل هذه التعريفات والمفاهيم المستهلكة.

كما لا أريد الدخول في معترك تقسيمه وتصنيفه إلى غزل عذري بدوي عفيف، وغزل آخر حسيّ فاحش يذهب في طريق وصف مفاتن النساء الجسدية والحسية ؛ فهذا قد قتل بحثا، وأرهق تمحيصا وفحصا، كما يقولون، وإن كنت لا أتفق مع هذا المعنى.

 

لكنني أود الوقوف هنا على فلسفة فن الغزل، وفلسفة مفهومه الحقيقي في شعرنا العربي القديم، وعبر عصوره الأولى بين الجاهلية والإسلام، وما سكتت عنه الأقلام كثيرا، ولم توفه حقه كما يجب، ولم تتعمق الدراسات السابقة في فهمه حق الفهم، باستثناء بعض المحاولات المحدودة عند (كمال أبو ديب) وغيره، لم تفلح، رغم أهميتها، في فك الطوق عن محدودية الرؤية العامة للباحثين في هذا الفن العميق والثري والمتشعب والكبير، وإنما ظل الباحثون ـ في معظمهم على حد علمي ـ يرون الغزل ويتناولونه على رأي السابقين وتناولهم، ويتوارثون معناه ومفهومه وأطره كابرا عن كابر وكأنه نوع من المسلمات.

 

وبالرغم من توفر بعض الدراسات الأخرى التي وقفت على الرؤي والتأويلات السيكولوجية والأسطورية وغيرها للشعر القديم ، إلا أنها تظل محدودة جدا ـ في رأيي المتواضع ـ سواء كانت هذه المحدودية في الرؤية من ناحية، أو كانت المحدودية في الاستقراء الحقيقي والجاد لهذا البحر الهادر من النصوص والشعراء على اختلاف القبائل والبيئات والأزمنة والمعتقدات والأفكار ، والتي نعلم يقينا أن ما وصلنا منها أقل بكثير مما ضاع في متاهات البوادي والأزمنة، ناهيك عن الرواية وما يتعلق بها، والجمع وما اعتراه من مثالب ونواقص، وطول الأمد الزمني وما مر عليه من تقلبات وأغيار، ومن ثم ظلت هذه المحاولات لا تليق بهذا الفن الشعري الكبير الذي يحتوي في داخله على العديد من الرؤى والمفاهيم والفلسفات العميقة التي لم تتضح بصورة صحيحة حتى الآن، ولم تناقش بصورة لائقة حتى يوم الناس، وأنَّ تداخله واشتجاره مع غيره من الفنون والموضوعات الشعرية الأخرى في القصيدة القديمة لم تتضح معالمه جيدا، ولم يكشف الغطاء عنها بعد، وإنما ظل التأويل لهذا التداخل والاشتجار تأويلا ضعيفا، وربما محدودا، وربما عاجزا أحيانا، بل وربما كان ساذجا أيضا في بعض الأحايين؛ وظل تناولنا وتأويلنا له في تداخله واشتباكه واشتجاره هو نفس التأويل القديم المحدود والمتعارف عليه، وظلت هذه الدراسات المعدودة والمحدودة محصورة في مساحات ضيقة من صوره، بل ظلت رهينة لبعض القصائد المشهورة، ولبعض الشعراء المشهورين، فلم تتوسع في تلك الأطر من ناحية، وأدخلته في أطر مغلقة من التأويلات الجامدة للطقوس والعبادات من ناحية أخرى، لا سيما تلك الدراسات التي وقفت على التأويل الأسطوري للغزل، كدراسات الدكتور أحمد زكي والدكتور نصرت عبد الرحمن على سبيل المثال لا الحصر، بينما ظلت بقية الدراسات الأخرى تنظر إلى الغزل بمفهومه الضيق والمحدود الذي رسمه لنا المصنفون الأوائل بنوعيه الوحيدين الجامدين المحدودين اليتيمين، وبهذا ظل الدوران في التأويل المحدود والمفهوم المحدود لهذا الفن الشعري الكبير.

 

ولعلي لا أكون مبالغا إذا قلت إن الغزل كان هو الفن الأول بين فنون الشعر القديم بشكل عام، والجاهلي بصورة خاصة، وكان هو الموضوع الأساس بين موضوعاته، وأن الغزل كان هو التيمة المحورية التي شيد عليها بنيان القصيدة القديمة، لا بمفهومه المحدود المتعارف عليه، وإنما بمفهومه الفلسفي العميق، ودلالاته وإشاراته البعيدة، وتوظيفه اللامتناهي واللامحدود، وأن فن الغزل عند العرب الأوائل لم يكن محصورا في تصوير ميل الرجل للمرأة، وإحساسه بها، وتصويره لمفاتنها، وإنما كان فلسفة إنسانية، ورؤية وتنظيرا شعريا، يمارسه الشاعر بوصفه السيد / الحكيم / المنظِّر / الفيلسوف / النابغة / المُقَدَّم / الرائدُ ، يستهل به قصيدته ثم يختتمها بخلاصة فلسفته الحكمية، التي هي جزء أصيل لا يتجزأ من هذه الفلسفة التي بدأ بها، وأنها ليست سوى الإجابة عن أسئلته الكبرى في الحياة والموت والوجود والخلود والفناء التي طرحها في البداية عبر ما نسميه بالمقدمات الطللية، أو الغزلية، ليجيب عنها في ختاماته الحكمية.

 

ويكون الغزل في هذه الدائرة الفلسفية هو محاولة لقراءة واقع غير مفهوم، وفضاء غير معلوم، تحولت المرأة من خلاله إلى رموز وإشارات، ورؤى كلية, ينظر إليها، وينظَّر من خلالها لقيم وقضايا وأسئلة كبرى حارت فيها عقول وألباب الجاهليين كثيرا كالحياة والموت، والقبح والجمال، والخلود والفناء، وغيرها من الأسئلة الكونية الكبرى التي شكلت حيرة القدماء وأرقت مضاجعهم، في عالم يموج بالحركة، ويضج بالصراع، ويعاني فقد التنظير، وغيبة الدين، وصراع الحسي والمادي، والتصاق الموت بالحياة، وتغوّل أدوات القوة .

وبهذا تكون محاولاتنا المستميتة في التفريق بين المقدمة الطللية والمقدمة الغزلية ماهي إلا نتيجة لعدم الفهم الحقيقي لمفهوم وفلسفة وأبعاد وتوظيف الغزل في الشعر القديم، وأن حديثنا عن أن عنترة بن شداد قد تذكر محبوبته عبلة وهو في قلب المعركة، ليتحول عن وصف المعركة إلى التغزل في محبوبته حيث يقول :

 

وَلَقَد ذَكَرْتُكِ والرّمَاحُ نَواهِلٌ … مِنّي وبِيضُ الهندِ تَقْطُرُ من دَمي

فَوَدِدْتُ تَقبيلَ السّيُوفِ لأنّها … لَمَعَتْ كَبَـــــــــــــارِقِ ثَغْرِكِ المُتَبَسِّــــمِ

هو تأويلنا ساذج، وحديث يدعو إلى السخرية، ويشي بأننا لم نفهم بعد حدود فن الغزل وأبعاده ومراميه، ولم نفهم بعد فلسفته الحقيقية لدى هؤلاء الشعراء الحكماء.

وإذا كان مفهومنا عن الغزل لا يتجاوز هذا المعنى الضيق المحدود، فأن حديثنا أيضا عن كعب بن زهير حين ابتدأ قصيدته في مدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمقدمة غزلية ـ بفهمنا الحالي لفن الغزل ـ يكون حديثا مضحكا وساذجا، ويدعو للسخرية أيضا؛ ليس لوقوف الشاعر بين يدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي حضرته فحسب، وليس لإدراكه لهيبته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحسب، مع هول ذلك وجسامته على الشاعر، كما وصفه هو نفسه في القصيدة ذاتها، بل أضف إلي هذا موقفه النفسي العصيب، والحال الصعيب لرجل جاء مستأمَنا، وقَدُمَ طالبا للعفو والرحمة، معتذِرا، بعد أن أهدر دمه لهجائه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتشبيبه بنساء المسلمين، ثم فراره هاربا مستنجدا بكثير من العرب فلم يجد منهم نجدة، فعاد خائفا مترقبا معتذرا تائبا راجيا العفو ممن أخطأ في حقه، ومن ثم فإن الحديث عن غزل وطلل ومحبوبة وتشبيب في مثل هذا المقام، وفي هذه الأطر الضيقة التي حصرنا أنفسنا بها في فهمنا للغزل، يكون حديث خرافة، وتأويلا يدعو إلى السخرية، وعدم إدراك للمقام، ولا للحال التي عليها الرجل . ……..

وللموضوع بقية سوف تأتي تباعا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى