القصة والأدب

مأساة ماجن .. بقلم أحمد عيسى

مأساة ماجن
بقلم/ أحمد عيسى
“رشدي” شخصية أنانية ماجنة مجادلة، عاش طفولته نزقاً ومرحاً، وقضى مراهقته طولاً وعرضاً، واستمتع بشبابه وفتوته على أوسع ما تكون المتع، وأرخى ما تلذ الحياة للهو والعبث.
لكن كهولته الآن شرعت في الأفول، وقوته أخذت في الاضمحلال والذبول، ورغم ذلك ظلت صبوته متأججة، وشهواته لا يفتأ يشحذها ويستثيرها، ورغباته لا يزال يُشعلها ويُذكيها مستغرقاً ومتقلباً في اللذائذ.
انكفأ “رشدي” على ذاته ولم يرَ في الوجود إلا متعة من لون واحد، هي متعة الإيناس بالنساء، حيث الحديث والنظرات، والاختلاط والاتصالات.
لقد حبس نفسه في زاوية ضيقة، فكل الذي يستميله ويستهويه وجه حسن، وجسد ممشوق، وضحكة مستهترة، وصوت خاضع، وحوار داعر، وفوق هذا علاقات مادية تُتبادل فيها الهمسات واللمسات في غفلة عن الدين، وغياب من العقل والضمير.
صار “رشدي” زوجاً فلم يُقلع عن العبث، ثم أضحى أباً فلم ينهه ذلك عن غيِّه، كَبِرَ بنوه ودبَّ الشيب في رأس زوجته التي تصغره بسبع سنوات، لكنه استمر يعبُّ من اللذات كؤوساً، ويبحث دوماً عن الجديد في عالم لا ينتهِ من الصديقات والخليلات.
في حوار لـ “رشدي” على المقهى مع “نبيل” (زميل دراسته وعمله) الذي طالما نصحه أن يُقلع عن علاقاته ونزواته، وأن عليه أن يخجل من سِنِّه إن هو لم يَخْزَ من نفسه وربه:
نبيل: ألم يأنِ لمسرفٍ أن يتوب إلى الله من جدل وفجور.
رشدي: وهل يكفُّ النحل عن رشف رحيقٍ ونشق زهور؟
نبيل: النحل يسعى بوحي من الله بالقرآن مسطور.
رشدي: النحل يُغريه رائحة وجمال ورحيق وعبير.
نبيل: النحل عفٌّ طاهر يسعى جاداً بأمان وسرور.
أحس “رشدي” بعد أن غادر المقهى لأول مرة بجفاف يغزو حلقه ويبدد لُعابه، ودوار يكاد يصرعه أرضاً، ثم أعمل ذاكرته فلم يجد نفسه قد تناول شيئاً مختلفاً أو غير معتاد.
دخل “رشدي” بيته منهكاً خائر القوى، يشعر بدبيب إعياءٍ يسري في جسده، تلقته زوجته المخلصة مشفقة خائفة عليه، ثم ساعدته في تغيير ملابسه وسجَّته بفراش، وتركته لتجهز له شراباً سريعاً ريثما تُعدُّ له الطعام أو تستدعي له الطبيب.
استيقظ “رشدي” من نومه مقنعاً نفسه بالعافية، وانطلق إلى عمله مستحثاً مجيء المساء ليدرك موعداً جديداً في الظلمات.
لكنه ما إن وصل إلى العمل حتى شَعَر بأعراض المرض تدهمه مرة أخرى؛ ما دفعه لمراجعة طبيب الشركة الذي طلب منه إجراء تحليلات وفحوص طبية عاجلة، وقد شك الطبيب في تداعيات السنّ من ضغط، وسكر، وقلب، وكبد.
مساءً وفي المقهى ذاته قابل “رشدي” زميله “نبيل”، فكان من حوارهما:
نبيل: ما لك يا رجل.. أشحوبٌ بعد نضارة.. وذبول وضمور؟
رشدي: أنا بخير.. مرضٌ عارضٌ سرعان ما سينجلي ويزول.
نبيل: ألا من عَودٍ قريب.. وتوبة نصوحٍ لرب غفور وودود.
رشدي: الله غني عن صيامٍ وسجود.. وقيام وركوع وقعود.
نبيل: يا مُجادل، هل سواءٌ قيامٌ لله وإعراض عنه ورقود؟
رشدي: ما قصدت.. فالله يغفر الذنب ويقبل التوب ويجود.
نبيل: كُفَّ عن جدالٍ وفسوق.. فغافر الذنب ذو عقاب شديد.
رشدي: دعني وربي فلو شاء لأمسيتُ متقلباً له في الساجدين.
اشتد بـ “رشدي” المرض، ووصل به الأمر للعناية الفائقة، وهناك بين الحياة والموت زاره “نبيل” ليدور هذا الحديث الأخير:
نبيل: لا بأس عليك يا صديقي.. سلامتك ألف سلامة.
رشدي: آه جاء وقت الحسرة.. وأقبلت ساعة الندامة.
نبيل: لا يزال الله يفرح بتوبة العبد وعودته والإنابة.
رشدي: أسرفتُ على نفسي وظلمتُ زوجتي وأولادي.
نبيل: تُب إلى الله متضرعاً.. يمحُ الذنب ويطوِ الزلل.
رشدي: أيقبل الله مَن عَصَاه ومنهُ فَزِع وفرَّ وهَرَب؟
نبيل (هامساً بعد أن أحس بدنو أجل صاحبه):
أشهدُ أن الله رب واحدٌ.. وأنه الفرد وهو الصمد.
وأن محمداً خير الرسل.. وهو الشفيع وهو الأمل.
رشدي:
أشهد أني عبدتُ الهوى.. عشتُ لنفسي وحبِّ الذَّات.
وأن حياتي فُحشٌ وخَنَا.. وأني ما شبعتُ من اللذَّات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى