القصة والأدب

موبايل الشيخ مسعود .. بقلم/ أحمد عيسى

موبايل الشيخ مسعود
بقلم/ أحمد عيسى
“مسعود” خمسيني متزوج وله أربعة أبناء (ابنان وبنتان)، حياته رتيبة يسيرة، إلا أنها هانئة وسعيدة، يبدأها بصلاة الفجر في المسجد، وهي لا تفوته إلا مرتين أو ثلاثاً في العام حين يعتريه ما يغلب البشر من مرض أو غفلة، أو إرهاق وكسل.

عاد “مسعود” من عمله في موعده مع الساعة الرابعة عصراً، وكعادته صلى العصر جماعةً في طريقه قبل أن يؤوب إلى بيته.

كثيراً ما طلب إليه أبناؤه أن يغير شيئاً من وتيرة حياته الراكدة بلون من التنزه والتغيير والتطوير، إلا أن “مسعود” قد جبل نفسه على عبادات وعادات وعلَّق قلبه بالمسجد.

كان “مسعود” نادراً ما يترك المكوث بين المغرب والعشاء معتكفاً؛ وهو يتعاهد القرآن منفرداً وفي المقارئ، وإن كان يجد نشاطه أكثر مع الناس مرتلاً ومعلماً.

ينهض “مسعود” يومياً ليصلي الفجر حتى أيام إجازاته، ثم يتأهب للخروج إلى العمل، وأحياناً يذهب إلى عمله من المسجد مباشرة عقب أدائه صلاة الفجر فينجو من الكثير من لأواء المواصلات وبأسها، حاملاً معه مصحفه وفطوره في حقيبته السوداء، وفطوره رغيفان لا ثالث لهما، وخيارة، وحبة طماطم، وبرتقالة أو نحوها من الفاكهة.

ثم بعد أن يؤدي “مسعود” صلاة الضحى في العمل يُفطر بما تزود به، إضافةً إلى ثلاثة أقراص “طعمية” ساخنة يجلبها إليه ساعي الشركة التي يعمل بها، ثم يزدرد دواء النقرس حامداً لله شاكراً له.

كان “مسعود” سعيداً بحياته اليسيرة، وهاتفه البدائي الذي كثيراً ما كان يُثير سخرية أبنائه وتعليقات بعض زملائه وتندرهم، إلى أن دبَّرت “نعمة” زوجته مبلغَاً من المال من جمعية رصدتها لشراء “موبايل تاتش” ذي خطين وزودته بباقة إنترنت.

وفي ذات يومٍ عاد “مسعود” من العمل عصراً، فألقى على أسرته التحية والسلام، ثم تناول معهم طعام الغَداء، وبعد الطعام دار هذا الحوار:
نعمة: عندي لك اليوم مفاجأة يا شيخ مسعود.
مسعود: بقلاوة.. أم أرز باللبن؟
نعمة: بل أهم وأفضل.. وأحلى وأجمل.
مسعود: إذن هو الجلاش.. أو كنافة بالقشدة.
نعمة: يا رجل!! موبايل جديد باللمس!
مسعود: وماذا أصنع به ومعي هاتفي العتيق وفيه الغَناء؟
نعمة: إنه صيحة قديمة قد مضى زمانها وأدبر.. فاقبل هديتي ولا تُخزني.
مسعود: ما كسرتُ خاطرك قطُّ.. هديتك مقبولة، وبين عينيَّ مصونة.

الأبناء: والآن يا أبانا إليك حصة مُكثَّفة شرحاً وتدريباً على الموبايل الجديد.
مسعود (بعد مرور نحو ساعتين من الشرح والتوضيح):
كفى يا أبنائي، فهِمت وتعلّمت وتعِبت.. لقد اقترب موعد أذان المغرب.

بعد العشاء بنحو ساعتين قضاهما “مسعود” – لأول مرة – مع هاتفه الجديد مُختلياً، قام مسعود ليلبي داعي النوم، وبمجرد أن لمس “مسعود” فراشه غطَّ في سُبات عميق..
فتنة: أرسلت إليك طلب صداقة يا “أودي”.
مسعود: “أودي”؟ أنا “مسعود”.
فتنة: كنت في السابق “مسعود”.. لكنَّ “فتنة” أسمتك “أودي”.
مسعود: من “فتنة”؟ هل اسمك “فتنة”؟
فتنة (في تكسّر وخضوع): نعم. اسمٌ على مسمى.. تطَّلع إلى ألبومي وصوري.
مسعود: يااااااااه حقاً أنت “فتنة”.. أنت نَسْمَة بَسْمَة.. زهرةٌ ناعمة.. أو غزالة حالمة ساحرة.. بل فراشة ملائكية حائرة.
فتنة: فماذا لو رأيت هذا المقطع؟!
مسعود (متردداً للحظة في فتح الفيديو): تُرى ما فيه وما يحمله ويحتويه.. ثم يفتح الشيخ الفيديو.

فتنة (واثقة لاهية في تغنّج ومجون): هل بجوارك مناديل؟
مسعود (مرتبكاً): نعم.
فتنة (وقد أطلقت ضحكة لا يُسمع مثيل لها إلا في ماخور أو غُرفة نومٍ غائرة):
امسح إذن ما تصبَّب من عرقك يا “أودي”.
مسعود: كيف ألقاكِ.. أين أراكِ.. لا بد من لقياكِ؟!
فتنة: هكذا بسرعة ودون أن تعرف من أنا؟
مسعود: عرفتك ليست رقتك رقة إنسية، ولا بسمتك بسمة بشرية، وضحكتك تحمل أنغاماً موسيقية، أنت لمسة سحرية؛ ما أنت ببشر أنت أميرة أو حُورية.
فتنة: لم أكُ أعرف أن الشيخ أودي شاعر.
مسعود: إن من يرى شهي ما رأيت، ويسمع لذيذ ما سمعت.. إن كان جماداً تحرك ونطق، وإن كان غراباً غنى كبُلبل وصدح، وإن كان إنساناً رقّ من فوره وهام وشَعَر.
الآن فقط فهمتُ.. ما أبدع العندليب الأسمر حين غرّد:
قدك المياس يا عُمري
أيقظ الإحساس في صدري
أنت أحلى الناس في نظري
وما أنشدته كوكب الشرق:
هات عينيك تسرح في دُنيتهم عينيـــــا
هات ايديك ترتاح بلمستهم ايديــــــــــــا
فتنة: أردت غوايتك فأغويتني، وأرسلت إليك شباكي فصدتَني، لا يصلح للعاشقين إلا دفء اللقاء.
مسعود: في أي مكان كنتِ سرتُ إليك، وفي أي زمان حللتِ طرتُ إليك، أين أنتِ يا قَدري وقلبي، أين أنتِ يا غرامي وعشقي، يا أملي ومودتي، وعُمري وحبي، وحياتي وفتنتي.
“نعمة” وقد أيقظها أذان الفجر، فذهبتْ مسرعة تطمئن على الشيخ “مسعود” الذي لم يستيقظ حتى الآن، وكانت “نعمة” قد باتت في حِضن صغيرتها تتعاهدها بالكِمَادات الباردة، وقد ارتفعت حرارتها فجأةً بعد أن أكثرت من الطعام في وجبة العشاء.
نعمة تَطْرُق الباب (وَجِلةً): الفجر يا شيخ مسعود، شيخ مسعود.. أُذن بصلاة الفجر!
مسعود (لا يزال وجهه مُجللاً بابتسامة وبين يديه وسادة): يا الله! أُذن بالفجر.. لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون!
فتنة: ما بك ما دهاك الليلة.. ما الذي قعد بك عن القيام قُبيل الفجر؟
مسعود: رؤيا وفِتْنة… لا لا يا “نِعْمة”.. بل كابوس ونِقْمة.
نعمة: ما تقول.. ماذا تعني يا شيخ؟
مسعود: أمسكي هاتفك، تلك هديتك، قد أثقلتني عن قيامي وصلاتي، وعبادتي وخلوتي. إليَّ بمحمولي القديم عَجِّلي إليَّ بمصحفي.
نعمة: حاضر حالاً.. (ومن بعيد): بِمَ تتمتم يا مسعود لا أكاد أسمعك؟
مسعود: صدق الله العظيم القائل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14]. والقائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14].

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى