مقال

بلطجي وفيلسوف .. بقلم/ أحمد عيسى

بلطجي وفيلسوف
بقلم/ أحمد عيسى
“إمام” فيلسوف فقير، مثقف ومتدين، نشأ في حي من أحياء مصر الشعبية، وعاش حياته بين ربوع فقرٍ واطِّلاع وقراءة، وفلسفةٍ وتأملٍ وعِبادة.
كان من جيران “إمام” في شارعه “هشامُ”، ذلك البلطجي الذي يقضي أوقاته بين سلب ونهب، وقهر وغصب، يستند في ذلك إلى صحة متأججة موفورة، معتمداً على بنية قوية مفتولة، تؤازرها نفسية كاسر، وهمجية وحش ضار.
كان “إمام” الفيلسوفُ يتحاشى البلطجي “هشامَ”، فترى الفيلسوفَ يَغُض الطرْف حين يرى البلطجي متسكعاً على ناصية، أو متربصاً بضحية، أو قاطعاً لسبيل مارَّة.
وكان البلطجي يستضعف الفيلسوفَ، فلا يأبه له، ولا يعبأ به، وكان دوماً يُسقطه من قائمة ضحاياه، أو يرجئه لوقت لا يعلم أيَّان مُرساه، ليس لضعف الفيلسوف فقط بل ربما أيضاً لفقره أو تقواه!
وحين كاد الصبح يتنفس أثناء خروج “إمام” من المسجد عقب صلاة الفجر، كان “هشام” قد أنهى ليلته وسهرته، وجلس مطأطئ الرأس شاخص البصر، فلاحت أقدام الفيلسوف أمام ناظري “هشام”، ووقع خطو “إمام”قريباً من مسامع البلطجي “هشام”.
وللمرة الأولى يستوقف البلطجي الفيلسوفَ ليدور هذا الحديث:
هشام: لماذا تمقتني وتتجاهلني يا إمام؟
إمام: جرائمك وذنوبك حكمت بازدرائك واجتنباك.
هشام: هل حَكَمَ الله ورسوله بما تقول.. أو حكى ذلك القرآن الكريم؟
إمام: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47].
هشام: تعني أن المجرمين كالشياطين ليس لهم توبة؟
إمام: الشياطين ليسوا جناً فقط، فهناك {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112].
هشام: هل هناك ما يحول بيني وبين التوبة إلى ربي؟
إمام: جبال من الجرائم والكبائر.. وتلال من المعاصي والصغائر.
هشام: سمعتُ أن التوبة تجُبُّ ما قبلها.. وأن الأعمال بالخواتيم؟
إمام: هذا إن تاب العبد من قريب، وأسرع بالإنابة والأوبة، والعودة والتوبة، واستمر على ذلك ومات عليه.
هشام: أشعر أن عبادتك أورثتك غروراً وصَلَفاً.. وتعالياً وكِبْراً!!
إمام (مشيراً إلى نفسه ثم إلى هشام): هذا عِزُّ الطاعة.. وذاك صَغَار المعصية: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 – 36].
هشام: أُحس برغبة جامحة إلى طريق الله.. لكني لا أعرف سبيل البدء وكيفية الوصول والخلاص.
إمام: إن أردتَ الطريق فَأَقْلِعْ وتَخَلَّ، ثم ارْتَقِ وتَحَلَّ.
هشام: هذه دندنة فيلسوف لا أعرف كنهها، لكني على يقين بأن خالق الكون واسع الرحمة.. عظيم المغفرة.
انطلق الفيلسوف، ثم نهض البلطجي على أثره، وأخلد كل منهما في بيته إلى الدعة والنوم، فإذا بالفيلسوف يرى في منامه أنه قد تورط في اقتراف رشوة من عميل راجعه في مكتبه بالمؤسسة التي يعمل فيها، ثم حين كان الفيلسوف عائداً من عمله بالرشوة تصدمه سيارة فيلقى حتفه على الفور.
بينما رأى البلطجي في نومه أنه اغتسل وتطيب وقام في جُنْح الليل البهيم يستغفر الله ويتملقه، ثم أذَّن المؤذن بصلاة الفجر، فهُرع “هشام” إلى المسجد، وقبل أن يسلِّم الإمامُ التسليمتين، صعدت روح “هشام” إلى بارئها خلال تقلبه في الساجدين.
وفي عالم الأرواح، التقى “هشام” و”إمام”، فكان هذا الحوار:
هشام: سبحان الله.. أنا أدخل جنة الخلد قبلك يا إمام؟!
إمام: نعم، هذا قدر الله وتلك مشيئته، بل هو فضل الله وسابغ رحمته.
هشام: قد حسُن منطقك، ولان كلامك، وزاد نورك وبهاؤك.
إمام: من دخل الجِنان أضاء الله منه الوجه والجَنان.
هشام: قل لي ما الذي أنجاك من النار وقد تلبَّستَ بشيء من الكِبْر.. وختمتَ حياتك برشوة؟
إمام: رجَّح الله ميزاني بغالب سلوكي وأكثر أعمالي، وغفر لي زلتي ورشوتي، بعد أن طهّرني تماماً من تِيهِي وزهوي، وحَوْبَتِي وعُجْبِي.
هشام: سبحان الله هو الكريم المنَّان.. واسع العفو والرحمة والغفران.
إمام: وأنت.. كيف نجوتَ وارتقيتَ إلى هذه الدرجة من جَنَّة الخلد؟
هشام: عاملني الله بجميل عفوه فغفر لي ماضياً عريضاً اكتسبته، وبالمعاصي لوَّثتُه، وقَبِلَ مني صِدْق نيتي، وخالص التوجه إليه في توبتي، وزكَّى لي آخر عمل صالح عملتُه وكسبتُه.
عندها استيقظ كلٌّ من البلطجي والفيلسوف على صوتٍ يهتف:
رُبَّ طاعةٍ أورثت عُجْباً واستكباراً، ورُبَّ معصية أورثت ذُلاً وانكساراً، ألا لا كبيرةَ مع استغفار، ولا صغيرةَ مع إصرار!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى