مقال

نظرة تأمل مع رمضان شهر العزة والنصر ” الجزء التاسع

 

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء التاسع مع رمضان شهر العزة والنصر، وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط فى قبة تركية على سُدّتها حصير، قال فأخذ الحصير بيده فنحّاها فى ناحية القبّة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس، فدنوا منه، فقال صلى الله عليه وسلم” إنى اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لى إنها فى العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف” فاعتكف الناس معه” رواه مسلم، وقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته إلى تحرى هذه الليلة والتماسها، وطلب موافقتها، فعن عائشةَ السيدة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “تحروا ليلةَ القدر فى الوتر من العشر الأواخر من رمضان” رواه البخارى، وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إلتمسوها في العشر الأواخر” ويعنى ليلة القدر فإن ضعف أحدكم أو عجز، فلا يغلبن على السبع البواقى”

 

فالله عز وجل فطر النفس البشرية على حب الشهوات والميل إليها وذلك من أجل أن يؤدى دوره المنوط به في هذه الحياة، ومن أجل تحقيق ما يجلب له الخير ويدفع عنه الشر، لكن، هذه الدوافع الفطرية إن لم تخضع لميزان المنهج الربانى القويم الذى يضمن الكرامة والعفة والاستقامة، يجعل النفس الإنسانيةَ تنجرف مع تيار الشهوات والهوى، وتفقد مقومات إنسانيتها وكرامتها، مما يجعلها تنحرف وتسقط صاحبها فى وحل الرذيلة والانحطاط والفساد، فسفينة النجاة التى توصل الإنسان إلى شاطئ الأمان، أن يضبط نفسه وفق ما شرع الله، وأن يقودها لا أن يجعل نفسه تقوده، والناس قسمان، قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته فصار مطيعا لها، وقسم ظفر بنفسه فقهرها حتى صارت مطيعة منقادة له، وقد ذكر الله القِسمين فقال فى سورة النازعات ” فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هى المأوى، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى” فالنفس تدعو صاحبها إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا.

 

والرب سبحانه وتعالى يأمر عبده بخوفه ونهى النفس عن الهوى، فإما أن يجيب العبد داعى النفس فتختل موازينه وقيمه وشعوره وسلوكه فيهلك، وإما أن يجيب داعى الرب، فيخضع نفسه ويجاهدها لردها إلى أمر الله ومراده والالتزام بحكمه فينجو، لذلك، فاتباع هوى النفس وشهواتها على غير شرع الله، أساس الانحراف عن الصراط المستقيم، وركيزة الانجراف في حمأة الباطل والفساد، وهذا شهر رمضان، وهو إحدى الوسائل فى تحقيق تربية نفس المسلم وتقويمها ومجاهدتها حتى تلتزم الصلاح والاستقامة، وهذا أعظم انتصار يحققه المسلم، فالله تعالى خلق اللسان في الإنسان ليتكلم به فى أمور الخير، وليعبر به عما يحتاج إليه فى أموره، ولكن للأسف الشديد، فإن الكثير من الناس، لم يستعملوا هذا العضو فيما خلق له، بل وكثير من المسلمين فى هذا الزمان، أصبحت نعمة اللسان عليهم نقمة، وأصبحت ألسنتهم يعصى بها الله أكثر مما يطاع، فكثير من الأمراض الاجتماعية من غيبة ونميمة وسب وشتم وقذف وخصام وكذب وزور وغير ذلك.

 

فللسان فيها أكبر النصيب، ومن هنا جاء التأكيد العظيم على حفظ اللسان، فيقول الله تعالى ” ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد” ومن هنا أيضا جاءت تلك الوصية العظيمة من النبى صلى الله عليه وسلم لمعاذ قال له “امسك عليك هذا” وأشار إلى لسانه، قال يا رسول الله أو نؤاخذ بما نتكلم به؟ فقال صلى الله عليه وسلم ” ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس فى جهنم على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ وأن النبى صلى الله عليه و سلم قال ” إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقَمت استقمنا، و إن اعوججت اعوججنا” وأن النبى صلى الله عليه وسلم قال ” إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بِها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يومِ يلقاه” وإذا أمعنا النظر، أدركنا أهمية الانتصار على اللسان فى شهر رمضان، فمن لم يستطع أن ينتصر على لسانه ويضبطه.

 

خاصة وهو صائم، لا يمكنه أن ينتصر في معركته مع شهواته وعدوه، بل إن الانهزام أمام اللسان وآفاته يؤدى بصاحبه إلى الإفلاس والهلاك، لذلك كان الصيام تدريبا عمليا للعبد على ممارسة عبادة ” أمسك عليك لسانك” وامتلاك القدرة على التحكم فيه، وتوظيفه فى الخير، فالقلب السليم هو العملة الرابحة التي تنفع صاحبها يوم القيامة وتنقذه من عذاب الله، قال تعالى ” يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم” والقلب المريض، هو ذاك القلب الأسود المظلم بأمراض الحقد والبغضاء والكراهية والحسد والكبر والاستعلاء على الناس وظلمهم، فمعركة الانتصار على أمراض القلوب، معركة فاصلة في تحديد قيمة العبد ومقامه عند مولاه، وما تفاضل من تفاضل من الصالحين إلا بذلك، لذا أحرى بالعبد المؤمن أن لا يتهاون في تطهير قلبه، فسيد القوم من لا يحمل في قلبه لا حقدا ولا غلا ولا حسدا ولا كراهية لإخوانه في الدنيا، فما بالكم في الآخرة التى قال الله عز وجل في حق أهل جنته ” ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين”

 

وشهر الصيام فرصة ذهبية لتنظيف وتطهير القلوب والتخلص من الأمراض والانتصار عليها، لأنه متى صلح القلب انفتح باب الإصلاح العام، فقال صلى الله عليه وسلم ” أَلا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب” وإن من العوائق كذلك الرياء، فالرياء يحبط الأعمال ويُبطلها، فقال الله تعالى فى سورة الفرقان ” وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا” فالرياء سبب لمقت الله تعالى للعبد وطرده من رحمته، وهو من كبائر المهلكات، وقد عده النبى صلى الله عليه وسلم شركا أصغر، ففي الحديث الصحيح، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ” إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، الرياء، يقول اللهُ يومَ القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم، اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء” وأن النبى صلى الله عليه وسلم قال ” من قام مقام رياء وسمعة راءى الله به يوم القيامة وسمّع” فجدير بالمسلم أن يجاهد نفسه بالابتعاد عن الرياء.

 

وأن يخلص لله في نيته وأقواله وأفعاله وأموره كلها، ورمضان هو شهر الإخلاص بلا منازع، وقد توفرت كل عوامل النجاح للمؤمن فيه على كل دواعى الرياء وأسبابِه، وتنمية عنصر المراقبة والتجرد لله عز وجل لديه، وإن من العوائق أيضا هو الشح والبخل، ولقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الداء العضال وعده من المهلكات، فقال ” إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا” فتطهير النفس من داء الشح والبخل، من مقاصد الصيام المهمة، لذلك كان رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أجود الناسِ، وكان أجود ما يكون فى شهر رمضان، فهو أجود بالخير من الريح المرسلة، فالصيام مدرسة يتعود فيها العبد على السخاء، وإطلاق اليد بالعطاء، عطاء صادقا لا يحده حد، ولا يقيده شرط، عطاء لمن يحب ومن لا يحب، فقال الله تعالى فى سورة التغابن ” وانفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون” ففيه يتعمق لدى المسلم الشعور بمعاناة المحرومين والمحتاجين، فيترفع على أنانيته وحبه لذاته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى