خواطر وأشعار

رسالة من داخل السّجن    (رواية قيد الإنجاز)

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

بقلم: رشيد (فوزي) مصباح

ــــــــــــــــــــــــ

الجزء الخامس

(2)

حكايتي مع الخزناجي.

بسبب الارهاق وبعض المشاكل التي بتُّ أتخبّط فيها، قرّرتُ التريّث إلى حين مواصلة كتابة الرّسالة التي أحببتُ أن أفشي فيها بكلّ الأسرار التي احتفظتُ بها خلال كل السّنوات التي عانيتُ فيها أنا وأولادي من مصائب الجوع والفقر والحرمان، و كانت جدّ قاسية. ولم أجد سندا في أحد، ولا حتّى في أولئك الذين كانوا يتودّدون إليّ ليظهروا لي بعض المحبّة، لكنّها كانت مودّة ومحبّة مغرضة وزائفة.

لأنني، كما سبق وقلتُ ، عانيتُ من شبح الخجل الذي طاردني منذ كنتُ تلميذا في سن المراهقة، ومنعني من إظهار شخضيّتي الحقيقيّة، والذي سيطر عليّ وحرمني من ممارسة حقّي في الحياة كأيّها النّاس. ولم اكن أقلّ ذكاء ولا بهاء ولا قدرة من كل أولئك الذين كانوا من حولي.

وفي هذا اليوم، بينما انا اتجوّل في السّوق الاسبوعي الذي يعدّ الحدث الأكبر والأهم في حياتنا الرتيبة المملّة المليئة بالمناكآة، صادفني القابض البلدي؛ الشّخص الذي توسّمتُ الخير في نظراته البريئة ذات مرّة، حين كان شابّا في مقتبل العمر، قبل أن ينزع القناع عن وجهه العبوس “المصفار” ويكشف لي عن صورته الحقيقيّة في ذلك اليوم الذي طلب فيه منّي خدمة. ورحتُ أتساءل: ” ما حاجة قابض ضرائب إلى مجرّد كاتب مثلي؟!”. وجئتُه بسيارتي في الموعد المحدّد، وركب السّي عبد الـ(ح) بجانبي في المقعد الأمامي، وقمنا بجولة وسط البلدة.

قد يتساءل بعض الفضوليين أو يتعجّب: “ما طبيعة العلاقة التي يمكنها أن تربط بين قابض بلدي و كاتب عام؟!”. والعلاقة بين هذين الاطارين لم تكن أبدا على مايرام، لتعارض المصالح من ناحية، ولأنّ اسم الكاتب العام لم يرد في القوانين السّاريّة المفعول في تلك الأيام. لكن في المقابل يتمتّع القابض البلدي بسلطة رقابة، قبليّة وبعديّة، بموجب نصوص سارية المفعول، يتسلّط بها على قرارات رؤساء المجالس الشعبيّة البلدية، المنتخبين الذين ورد ذكرهم في نصوص حديثة تصفهم بالآمرين بالصّرف و و…، ولكنّها في الواقع محرّد صلاحيات شكلية و”حبر على ورق”. وقد استغلّ بعض القبّاض من أمثال السّي عبد الـ(ح) هذا التناقض ليمارس أنواع الأبتزاز على بعض من هؤلاء الرّؤساء المنتخبين، من الذين جاؤوا من أجل خدمة أغراضهم الشّخصيّة.

عرفتُ السّي عبد الـ(ح) حين كان مجرّد عون بسيط في القبّاضة الصغيرة الضيّقة، ولم يكن يتميّز بشيء عن بقيّة زملائه. لذلك لم أكن اتوقّع أن يترقى فجأة ويصبح بين عشيّة وضحاها قابض الضّرائب المتنوّعة. وهو الأمر نفسه الذي حدث مع البلديات التي انبثقت من التقسيم الإداري الجديد، حيث تم تأطيرها بخرّيجي المراكز الإدارية وفقا لبرنامج سريع اختزل كل مراحل التكوين. خدمة لطموح بعض المتنفّذين في السّلطة، وممارسة لشّعبويّة بائدة تم من خلالها العبث بالمال العام ، وكل ذلك من أجل تقسيم إداري عشوائي أنْتج ولايات ودوائر وبلديات لا تستجيب لأدنى المعايير.

– ” لا تظنني قد نسيتُ تلك العبارة التي تفوّهتَ بها أمام زميلتك يالسّي عبدالـ(ح). حين جاءت تطلب منك أن تردّ عليّ في الهاتف، في ذلك اليوم الذي طلبتُك فيه بتسديد بعض الأجور العالقة، وكنتَ عندها في مكتبك تتربّب وتتعنتر على زميلاتك القوارير النّاعمات. لكنّك شخص خسيس ولا تستطيع أن تمحو تاريخك “الكبير”؛ وأنت تحمل فناجين القهوة من المقاهي المجاورة إلى زملائك “المتعترسين”. كنت حينها تعمل بإحدى قبّاضات عاصمة الولاية “سوق أهراس”، ومن ثمّ ربما اكتسبت الخبرة التي رقّتك، حتّى غدوت قابض ضرائب متنوّعة في بلدتي المغبونة؛ “ترخسي يا الزرقاء و يركبوك بني عداس”.

كنا الإثنين داخل سيارتي الصّغيرة، والله شاهد على ما أقول، حين سلّمتك الظرف الأصفر وبداخله ورقة نقود بمبلغ خمسمئة دينار (500) دج. لم أكن أعرف يومها أن جشعك قد تجاوز كل طموح.

لستُ أدري كيف نجوتَ من السّجن رغم كل الشّبهات التي كانت تحوم من حولك؟!

لكن هكذا هو الحال في بلدي الطيّب مع أمثالك من اللّصوص والانتهازيين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى