مقال

طبيب بيطري

طبيب بيطري

بقلم/ أحمد عيسى

حين تتحول الرسالات الإنسانية النبيلة إلى محض مِهَنٍ للكسب، ومصدرٍ للسلب المُقنن والنهب، وعندما يذوي الضمير ويتوارى خلف قلبٍ طافح بالجشع الطاغي، والطمع المستبدّ، وحين يُذل بريقُ الحرصِ ومُغريات المال أعناق الأطباء فإنه يحين ميلاد هذه القصة..

شهدت ضيعة “أبوقتادة” بمحافظة الجيزة المصرية ولادة كل من: “سيد”، و”سعيد” ونشأتهما طفلين بهذه المنطقة المُوغلة في الشعبية، أما “سيد” فكان أبوه تاجر خُردة، وأما “سعيد” فكان أبوه موظفاً.

أحب “سيد” المال حباً جماً، فقد كان أبوه يُجلّ المال لا يفتأ ينحني أمام بريقه، ويمنّي النفس بوشك قنصه في صفقاته، ودنو الاستحواذ عليه وامتلاكه.

وأما “سعيد” فكان قانعَ النفس، راضي القلب، علَّمه أبوه ألا يمد ناظريه إلى ما متّع الله به الناس من سعة دار، أو بسطة رزق، أو بُحْبُوحَة حياة، أو رَغَد دنيا، أو لِين عيْش.

كان للطفلين على صغرهما ولعٌ بعالم الطب، وشغفٌ بممارسة الكشف والعلاج، وإجراء التجارب والجراحات عبثاً ولهواً وفضولاً، فكنتَ ترى “سيد” يجوس خلال حديقة تابعة لكلية الزراعة بجامعة القاهرة، فيمسك بِضِفْدِع، فيأخذ في شده وتثبيته بعنفٍ بخيوط ومساميرَ دقيقة على قاعدة خشبية.

ثم يعمد إلى حقنه بماءٍ أذاب فيه حبة “ريفو” فيما يشبه المخدر، ثم يهوي عليه بموسى تماثل مِبْضَع الجرَّاح ومِشْرَطه، فيشرع في تشريح الضِّفْدِع، ثم سرعان ما يملأ “سيد” العُجب ويُطغيه الصَّلَف آخذاً في العرض والشرح لأقرانه وغيرهم من بعض المتطفلين العابرين.

وعندما ينتهي “سيد” من مهمة تشريح الضِّفْدِع، يرجوه “سعيد” أن يُحِيك الضِّفْدِع المسكين فيأبى، فيسأله أن يطلق سراحه ويُحرره من أسر ربطه وآلام جراحته فلا يأبه له، بل ربما سخر منه وضحك!

وحين يُلقي “سيد” بالضِّفْدِع ينازع الموت، ويصارع الهلاك، يُهرع “سعيد” إليه محاولاً إنقاذ حياته؛ بإسعافه تخييطاً وتضميداً، فكان “سعيد” مرة ينجح ويُفلح فيسر ويفرح، وأخرى يكون الموت أسرع منه، والمنيّة أمضى وأسبق، فيُخفق ويفشل ويحزن، ثم يحفر حزيناً حفرة ليواريَ فيها أشلاء الضِّفْدِع النافق!

وذات مرة وجد “سعيد” مجموعة جِرَاء صغيرة تلهو وتتسابق فاقترب منها ليكتشف ما يدور بعالم الكلاب الصغيرة، فلاحظ أن جِرْواً من هذه الكلاب الصغيرة يعْرُج برجله اليمنى، حَزِن “سعيد” وفكّر، ثم قرر أن يهتبل فرصة غياب أم الجِراء عنها، فأخذ الجِرْو المريض بعيداً فتفحصه، ثم حدد عِلّته وإصابته.

رجَّح “سعيد” وجود كسْر أو خلْع برِجْل الجِرْو، فأنام الجِرْو ومدده مُثبّتاً بمساعدة بعض أصدقائه، ثم تفحّص الساقَ السليمة جيداً، وجعل يربط الساق المريضة بعد أن أصلح موضع الخلع والكسر منها على نحو ما كانت عليه الساق المعافاة، على حين أخذ الجِرْو يعلو صوته نُباحاً وبكاءً، وبعد انتهاء عملية رتق الساق والتجبيس حمله “سعيد” برفق وأعاده إلى إخوته من الجِراء آمناً مطمئناً.

كَبِر الطفلانِ وصارا شابين طالبين بالثانوية العامة، وسرعان ما بدأت الدراسة وانتهت الامتحانات، وكشفت النتيجة عن مصير صاحبينا، فدخل “سيد” كلية الطب البشري، في حين رُشّحت كليةُ الطب البَيْطَري لـ”سعيد”.

سخِر “سيد” كثيراً من “سعيد”، وأطلق عليه “طبيب الحمير”، وبعد عدة سنوات صار “سيد” جرَّاحاً رُزق من المهارة ما رُزق، كما كُتب له من الشهرة ما كُتب، وامتاز “سعيد” في جميع سني دراسته فكُلِّف معيداً بكلية الطب البَيْطَري، وسرعان ما صار مدرساً بالجامعة.

ودارت السنون دورتها، ليفتتح دكتور “سيد” سلسلة من العيادات الحديثة الخاصة، تؤازرها صيدليات ومراكز أشعة وتحاليل وفحوص، وكان يتقاضى أجراً باهظاً في الكشف، لا يفرق بين قادر وعاجز، ولا يَمِيز بين ثريّ ومُقتِر، بل كان لا يقبل تحليلاً أو يعتمد أشعة أو فحصاً من جهة غير تابعة لمراكزه.

وعند افتتاح أحد مراكز الدكتور “سيد”..

دكتور سيد: أولوية الكشف لمن يدفع عاجلاً، وليست بالحجز، ولا بالسنّ، ولا حتى بحالة المريض الحرجة، وذلك ما وُجد قادرون على دفع قيمة الكشف العاجل!

الموظف: مفهوم يا دكتور.

وفي كلية الطب البَيْطَري..

كان الدكتور “سعيد” يُلقّن طلابه، قبل مقررات الطب ومعها، المبادئ الإنسانية المتعلقة بالرفق بالحيوانات، وضرورة مراعاة مشاعرها وأحاسيسها، فلا دَفْع ولا عُنف، ولا قسوة ولا قهر، ولا سبّ ولا ضرب..

دكتور سعيد: إن علاج الحيوان يأتي بعد التربيت على جسده، وتطمينه ومؤانسته، مع تغميض عينيه عند إجراء الجراحات ونحوها، وذلك بعد وخْزه بلُطفٍ بالحُقَن المنومة والأمصال المخدرة، باختصار: أنصح طلابي الأطباء بأن يتعاملوا مع الحيوانات كأنهم بشرٌ آدميون.

طالب: فإن كان لابد من التخلّص من الحيوان لاستفحال مرضه واستحالة علاجه؟

دكتور سعيد: بالرفق والحسنى: “إذا قتلتم فأحسنوا القِتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة”.

طار صِيتُ الدكتور “سعيد” مُحلّقاً في الآفاق، فانتُدب ضمن عشرة علماء لإنقاذ محمية للحيوانات النادرة اجتاحتها آفةٌ مميتة، وأصابتها جائحةٌ قاتلة بالولايات المتحدة الأمريكية، وتمكّن ضمن فريق العمل الذي رأسه من كشف علة المرض، والوقوف على السبب قبل علاج هذه الحيوانات النادرة، فأجرى التحاليل والتجارب، وقرر الدواء المناسب، ورجح التدخل الجراحي لبعض الحالات.

عاد دكتور “سعيد” من أمريكا ظافراً مُكرّماً من المسؤولين الأمريكيين، لتنشر الجرائد المصرية خبراً عن: عودة الدكتور “سعيد حامد” من رحلة بحثية لأحضان الوطن، في الوقت الذي كانت صورة دكتور “سيد” تقبع بصفحة الحوادث بالجريدة ذاتها أسفل عنوان: القبض على جرّاح شهير يمارس عمليات الإجهاض ويتاجر في الأعضاء البشرية!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى