مقال

ماذا وراء سد النهضة ؟ 

ماذا وراء سد النهضة ؟

بقلم : عبدالرحيم حشمت عسيري . المحامي

ربما لا يعلم الكثيرون منا … أن فكرة بناء سد النهضة تعود بدايتها إلى فترة الخمسينيات من القرن الماضي … حينئذ –وفي غفلة من الزمن– تجاهلت أثيوبيا كونها دولة منبع وبالتالي لا يحق لها بأي حال من الأحوال .. أن تشيد السدود على ضفاف النيل الأزرق من دون موافقة دولتي المصب مصر والسودان …… ورغم أن النيل الأزرق ليس نهرا داخليا كما تزعم هذه الدولة المارقة بل هو نهر دولي عابر للحدود لا يخضع لإرادتها المنفردة .. لكنها وبسوء نية قامت في تلك الفترة الزمنية المبكرة ، وبالمخالفة لقواعد القانون الدولي ، وخروجا على ما استقرت عليه المبادئ والأعراف ذات الصلة ، وما نصت عليه مواثيق الأمم المتحدة .. بعقد اتفاق مع أمريكا متمثلة فيما يسمى بمكتب الاستصلاح الأمريكي …. على القيام بعمل دراسة جدوى لتحديد المواقع الأكثر ملاءمة … لإقامة عدد من السدود على النيل الأزرق وذلك في اطار خطة أثيوبية طموحة …… الهدف المعلن منها تحقيق تنمية شاملة بعيدة المدى .. لكن ما خفي كان أعظم فمن الواضح جدا أن أثيوبيا عقدت العزم وبيتت النية مسبقا على تحويل نهر النيل الأزرق من مجرى مياه دولية إلى سلعة تُباع وتُشترى …. أو أداة سياسية لبسط النفوذ وفرض الهيمنة ، والتحكم في مصير المنطقة ، أو كلاهما معا …… وليس أدل على صحة ما تقدم .. مما تمارسه الحكومة الأثيوبية في الأوقات الراهنة ….. من صلف ، وتعنت ، وكذب ، ومراوغة …… في المفاوضات الثلاثية الدائرة حول أزمة سد النهضة …… ومن أبرز مشاهد التعنت والمراوغة الأثيوبية رفضها القاطع التوقيع على أية اتفاقية ملزمة تحت رعاية دولية حتى هذه اللحظة ، بينما مصر –وهي صاحبة الحق– تتعامل مع هذه الأزمة بأقصى درجات ضبط النفس وبمنتهى الحكمة … ويأتي في مقدمة السدود التي شملتها دراسة الجدوى سالفة الذكر سد النهضة الذي يمثل وجوده تحديا كبيرا لإرادة المصريين، ويُعتبر تعديا سافرا على حقوقهم التاريخية في مياه نهر النيل ….. ومن المعروف أن سد النهضة تغيرت مسمياته عدة مرات عبر مراحله الزمنية المختلفة …. حيث أُطلق عليه في بادئ الأمر السد الحدودي ، ثم اطلق عليه بعد ذلك سد الألفية ، لينتهي أخيرا إلى اسم سد النهضة .

ولأن الشيء بالشيء يذكر …. يذكرنا هذا السد المشئوم الذي يحمل في بنيانه أسباب انهياره كما سنعرف بالتفصيل بعد قليل وسيتحول عما قريب تحت مسمى النهضة إلى مجرد ذكرى بائسة ، لذلك أقول يذكرنا هذا السد بمشروع النهضة الذي رفعت لواءه تلك الجماعة الضالة المضللة .. بعدما وصلت إلى قمة هرم السلطة …… لكنها سرعان ما سقطت في هوة سحيقة ، وذهبت إلى مزبلة التاريخ دون رجعة ….. وذلك بعدما اكتشف الشعب المصري العظيم أن مشروعها ما هو إلا مجرد أكذوبة …… حيث أطاح بها في ثورة 30 يونيو الشعبية الخالدة .. ورغم أن اسم النهضة له في ذاكرتنا الوطنية قيمة ، ومكانة .. منذ عصر أجدادنا الفراعنة .. حتى عصر محمد على باشا مؤسس الدولة الحديثة … لكنه تحول على يد الجماعة الإرهابية المنحلة من قفزة علمية واقتصادية واجتماعية إلى انتكاسة تاريخية …. أما الشروع في بنائه فقد كان كما نعلم جميعا عقب اندلاع ثورة 25 يناير 2011 م مباشرة حيث استغلت أثيوبيا انشغال مصر بثورتها الشعبية ضاربة بعرض الحائط الروابط الأخوية والعلاقات التاريخية ، ومتنكرة للعهود والمواثيق والاتفاقيات الدولية .

والحقيقة ولأسباب طبيعية صرفة .. مرتبطة بتأثير التغيرات المناخية المتقلبة .. كانت مصر منذ بدء الخليقة .. تتعرض للتهديد في مياه نهر النيل .. الذي يشكل عصب الحياة للمصريين .. تارة بسبب الجفاف ، وتارة أخرى بسبب الفيضان .. لكن ولأول مرة في التاريخ تتعرض أرض الكنانة للتهديد المباشر ….. في مياه نيلها الخالد بسبب فعل فاعل ….. الأمر الذي أثار غضب أبناء الشعب المصري العظيم …… ذلك لأن نهر النيل يرتبط بمصر ارتباطا مصيريا وجودا وعدما ، فهو الذي قامت على ضفافه الخصبة الحضارة المصرية القديمة ، وساهمت مياهه في نشأة الدولة المركزية المبكرة ، كما يمثل لهذه الأمة الحاضر والمستقبل أيضا …. حيث تعتمد مصر على مياه هذا النهر العظيم بنسبة تصل إلى 95% من إجمالي احتياجاتها الزراعية والحياتية وهذا معناه أن أي تغيير يطرأ على حصتها المائية المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية … والتي يبلغ مقدارها 55.5 مليار متر مكعب من المياه سنويا .. سيكون له تأثير سلبي كبير على حياة المصريين .

ولذلك وتحسبنا لأسوأ الظروف تعمل الدولة على الاستفادة القصوى مما لديها من مياه ، كما تعمل أيضا على ترشيد الاستهلاك ، ومنع الهدر ، وتقليل الفقد الناتج عن الاستخدام الخاطئ للمياه .. وذلك من خلال عدة محاور منها العمل على اطلاق عدد من حملات التوعية بترشيد استهلاك مياه الشرب تحت شعار “نقطة مياه تساوي حياة” .. والتقليل من هدر مياه الري .. وذلك بتوعية المزارعين وتشجيعهم على اعتماد طرق الري الحديثة ….. أما مشروع تبطين الترع والمصارف على مستوى الجمهورية بطول يصل إلى 20 الف كم الذي انطلق العمل فيه من بداية العام الحالي … ويكلف ميزانية الدولة 60 مليار جنيه فيهدف إلى تقليل الفاقد ، كما تعمل الدولة أيضا على زيادة مواردها الداخلية من المياه … وذلك من خلال التوسع في استخدام المياه الجوفية للاستخدامات كافة .. والتوجه إلى زيادة الاعتماد على مياه محطات التحلية للاستهلاك الآدمي .. والتوسع كذلك في معالجة مياه الصرف الصحي لتنمية القطاع الزراعي ….. ومع ذلك يظل اعتماد الدولة الأساسي في الوفاء باحتياجاتها المائية المتزايدة باستمرار تبعا للزيادة المطردة في عدد السكان على حصتها في مياه نهر النيل المهدد حاليا بالتوقف عن الجريان بعد بناء سد النهضة المهدد بدوره بالتدمير أو الانهيار ومن هنا كانت مياه نهر النيل في مقدمة القضايا المصيرية الأشد خطورة والأكثر أولوية .

لكن ومن عجائب الأقدار –وما أكثرها– أن ترتكب أثيوبيا أخطاء جسيمة في تصميمات سد النهضة … حسب ما جاء في تقارير فنية صادرة من شركات دولية سبق لها أن شاركت في أعمال السد الأولية …. ومكاتب استشارية متخصصة استعانت بها أثيوبيا خلال مراحل بناء السد المختلفة .. والتي تؤكد جميعها على أن سد النهضة إن عاجلا أم آجلا سينهار لا محالة الأمر الذي جعل رئيس الوزراء الأثيوبي السابق يقدم استقالته فور علمه بهذه الكارثة ، كما أدى ذلك إلى انتحار المدير السابق للمشروع وعقب ذلك توقف العمل في السد لمدة عامين ثم استأنفت أثيوبيا العمل في بنائه بعد هذا كله وكأن شيئا لم يكن !! .

وبدون عناء يذكر وبمنتهى البساطة يتضح لنا مما تقدم ……. أن أثيوبيا بالرغم مما تبديه من صلف وتعنت وغطرسة لكنها في حقيقة الأمر في ورطة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ، ولا خلاص لها من هذه الورطة إلا بأحد أمرين لا ثالث لهما … الأمر الأول منهما يتلخص في استفزاز مصر واستدراجها لضرب سد النهضة وهو ما يفسر تعطيل أثيوبيا للمفاوضات والانسحاب منها عدة مرات بلا حجة على مدى عشر سنوات كاملة … والإصرار على عدم احترام التعهدات السابقة .. وإطلاق التصريحات العدائية المستفزة بمناسبة وبلا مناسبة مما أدى إلى تعثر المفاوضات حتى وصلت لطريق مسدود …. وكان آخر هذه الاستفزازات قيام أثيوبيا بالملء الثاني بإرادة منفردة …….. ما حدا بمصر أن تذهب لمجلس الأمن للمرة الثانية .. مطالبة بعقد جلسة طارئة لمناقشة النزاع الدائر حول سد النهضة …… في رسالة وجهتها للمجلس في مطلع هذا الشهر حذرت فيها المجتمع الدولي بشدة من خطورة هذه الأزمة على السلم والأمن الدوليين … وبينما أعرب الاتحاد الأوروبي عن أسفه الشديد لبدء أثيوبيا الملء الثاني لسد النهضة دون اتفاق جميع الأطراف ، في البيان الذي أصدره يوم 8 يوليو الجاري والذي انعقدت فيه الجلسة الطارئة لمجلس الأمن لمناقشة هذه الأزمة والتي انتهت إلى دعم المفاوضات تحت غطاء الاتحاد الأفريقي رغم أنه قاد مسار تفاوضي من قبل ولم يصل إلى نتيجة بسبب التعنت الأثيوبي …… أما روسيا التي كنا نحسبها دولة حليفة فقد بدت لنا وكأنها عدوة بمواقفها المؤسفة وتصريحاتها الصادمة ….. لكن ما أن أعلنت أثيوبيا رسميا الأسبوع الماضي فشلها الذريع في عملية الملء الثاني … حتى انفجرت ماسورة النفاق الدولي ورأينا كيف غيرت بعض الدول موقفها لصالح مصر في هذه الأزمة .

الأمر الثاني والأخير يتلخص في اعتراف الحكومة الأثيوبية أمام شعبها …. وأمام العالم كله بالأخطاء الجسيمة في مبنى سد النهضة .. والذي سيترتب عليه بالضرورة اضطرابات أكثر ضراوة ، وقلاقل وانفصالات بالجملة .. ستؤدي حتما إلى اشتعال حرب أهلية وستنتهي قولا واحدا بمحاكمة الأحمق أبي أحمد ، وأركان نظامه ، وتقسيم بلاده …. والتي ظهرت بوادرها بالمظاهرات الحاشدة التي اندلعت في أديس أبابا العاصمة يوم 30 يونيو 2020 م والتي لم تكن في الحقيقة إلا مقدمة .. فما زالت أمواجها العارمة متلاحقة حتى هذه اللحظة لعل أهمها مظاهرات إقليم بني شنقول … وهو أرض سودانية خالصة استولت عليها أثيوبيا في ظروف تاريخية غامضة ويقع على أراضيه الشاسعة مشروع سد النهضة حيث أعلن ثواره عزمهم على الانفصال التام عن أثيوبيا … أما إقليم تيجراي فقد انفصل بالفعل خلال الأسابيع القليلة الماضية على يد قوات بسيطة بدائية العُدة قليلة العدد عديمة الخبرة !! ….. وبالرغم من ذلك أقامت هذه القوات غير المنظمة عرضا عسكريا مهيبا في شوارع عاصمة إقليم تيجراي بعد الانفصال مباشرة تضمن استعراض 6000 أسير من الجيش الأثيوبي .. في مشهد مأساوي مهين لم يتعرض له من قبل أي جيش نظامي .

وبلا أدنى مبالغة …. يعتبر انفصال إقليم تيجراي البداية الفعلية لانفراط عقد الدولة الأثيوبية بالرغم من الجهود المضنية التي بذلتها في حشد هذا الشعب المخدوع الذي عاني طويلا من الاضطرابات الداخلية … والانقسامات السياسية … والصراعات العرقية …… ولم يلتف في تاريخه كله حول قضية وطنية ……. مثلما التف حول مشروع سد النهضة … نتيجة للتضليل الإعلامي الذي نجح في إيهامه بأن مصر هي عدوه .. لكنه استعاد وعيه ، وفجر جام غضبه في وجه هذه الحكومة المتبجحة التي تدق طبول الحرب ضد مصر بالوكالة عن قوى دولية طامعة .. وأطراف إقليمية معادية .. وجماعات ضالة مضللة …. لا يهمها تدمير سد النهضة ولا يعنيها حل المشكلة ، بقدر ما تتمنى توريط مصر في حرب مدمرة .

وخلاصة القول مصر أمام عدة احتمالات أحلاها مر …… وعلى أي منها سواء انهار السد ، أو تم تدميره على يد خير جنود الأرض …. أو بقي على ما هو عليه إلى الأبد .. فالمؤكد أن الدولة لا تترك أي احتمال مهما كان للصدفة ….. وعليه فإن كل الاحتمالات السابقة وغيرها من الاحتمالات المتوقعة الأخرى معمول حسابها كل على حدة …… ومرسومة بدقة متناهية ومدروسة بعناية فائقة .. وليس مطلوبا منا في هذه المرحلة المفصلية في تاريخ الأمة سوى الاصطفاف خلف قواتنا المسلحة ، والتعاون مع مؤسساتنا الوطنية ، والالتفاف حول قيادتنا السياسية التي تعرف تمام المعرفة متى وأين وكيف تحمي حقوقنا ، وتحافظ على مقدراتنا ، وتعمل على تأمين حاضرنا ومستقبلنا حربا وسلما .

وكي نرى ماذا وراء سد النهضة علينا أولا ألا ننسى أن الاعتداء على حقوقنا في مياه نهر النيل وما يمثله ذلك من تهديد لأمننا القومي –كما أسلفنا– ليس وليد اللحظة ، وليس قاصرا على هذه المرحلة ، أو المراحل التي سبقتها ……. بل هو حلقة جديدة في سلسلة طويلة من التهديدات القاتلة التي يتعرض لها أمننا القومي على مر العصور والأزمنة، وكأن الحروب والكوارث والأزمات تقف لنا بالمرصاد وتأبى ألا تتركنا نلتقط أنفاسنا أو تمنحنا مهلة لبناء بلدنا ، وتحديد أولوياتنا ….. وهذا يتطلب منا شعبا ، وجيشا ، وقيادة … أن نكون دائما وأبدا في حالة استعداد قصوى … ذلك لأنه بالرغم مما تعرضنا له على مدى التاريخ من تهديدات قاصمة … غير أن أمننا القومي لم يكن معرضا لمثل هذا التهديد القادم من الجهات الأربعة في نفس التوقيت ….. مثلما هو حادث الآن في هذه المرحلة …… وهكذا تتضح أمامنا معالم الأزمة وتتكشف لنا أبعاد المؤامرة فالحقيقة ما كانت مصر وهي صاحبة الحضارة القديمة الوحيدة التي قادت الشعوب والأمم ووصلت لحد الكمال كما يراها العالم على مر الزمن ، لتتعرض لمثل هذا الحجم الهائل من المشاكل والتحديات والمخاطر …. لو لم تكن على قدر كبير من الأهمية والقوة والتأثير في الماضي والحاضر والمستقبل …. ولهذا كلما بحثنا في صفحات التاريخ عن الجذور الرئيسية لمشاكلنا المصيرية المزمنة شممنا رائحة المؤامرة التي تقودها تارة بريطانيا المحتلة القديمة الرائدة في إثارة الفتنة أو تحيكها لنا تارة أخرى أمريكا وريثتها اللعينة الخبيرة في تعطيل مسيرة الدول الواعدة ….. ناهيك عن وكلائهم في المنطقة الذين يتربصون بنا كالكلاب المسعورة …. وعملائهم الذين تربوا على أيديهم ومن يحوم حولهم من المغيبين والجهلة والمأجورين والخونة …… الذين يعيشون بيننا ويتحينون الفرصة للاصطياد في المياه العكرة … لكن هيهات هيهات أن تنال مثل هذه القوى الحاقدة من وطن يحميه رب العزة مباشرة …. هيهات هيهات أن تنال مثل هذه النتوءات العفنة من شعب في رباط إلى يوم القيامة …….. هيهات هيهات أن تنال مثل هذه الشرذمة الضالة من قيادة جاءت إلى السلطة من خير أجناد الأرض قاطبة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى