القصة والأدب

ضائعٌ بين أقرانه ،،

ضائعٌ بين أقرانه ،،

(رواية قيد الإنجاز)

……………………….

رشيد مصباح (فوزي)

***

مداوروش في:

٣ صفر ١٤٤٣ هـ

الموافق لـ

10 سبتمبر 2021

***

بناء أمّة يبدأ من لحظة إقرار الزّواج ثمّ الإنجابب وتحمّل مسئولية كلّ ذلك؛ “تبنى الجبال من حصى” هكذا يقول المثل.

قبل أن نصير أمّة واحدة كنا قبائل متناحرة و مستضعفة تتعرّض لحملات الغزو الخارجي، ثم جاء الإسلام فردّ عنّا كيد الغزاة. ولم يكن ذلك كافيا فقد تعرّضت الأمّة الواحدة لزعزعة استقرارها الدّاخلي، ولغزوٍ صليبي بغيض؛ سمّيناه سذاجة: “الاستعمار”، ولم يكن سوى المدمّر المخرّب، والغاشم الذي مارس علينا أنواع العنف والقهر والاستبداد، وحاول بما أوتي من مكر ودهاء طمس هويّتنا ومسخنا واقتلاعنا من جذورنا؛ كما فعل بالهنود الأمريكيين الحمر السكّان الأصليين.

لكن الشعب الذي نشأ وترعرع في كنف العزّة و الإسلام لم يرض بمحاولات المسخ هذه، ورفع راية التحدّي: “إما النصر أو الاستشهاد”، وقرر أن يرمي بهذا الاحتلال الصليبي الهمجي الغاشم وإلى الأبد في مزبلة التاريخ.

– لم نكن نحن جيل الاستقلال نعرف شيئا عن هذا الاحتلال البغيض، سوى ما سمعناه من آبائنا وأجدادنا: عن المراكز الإدارية التي كان يتمّ فيها التنكيل بأبناء الوطن الأحرار بعد الاعتقال. ومن بين هذه المراكز المشهورة التي كان يتردّد ذكرها على الألسنة مركز “فان دي جو” الخطير ومركز “برج الحصن”.

كنا نتابع بشغف تلك القصص عن رجال يتعرّضون لأشدّ أنواع التعذيب؛ منهم من تتحرّش به الكلاب و تنهش جلودهم ولحومهم وعظامهم، ومنهم من يخضعون للتعذيب بالكهرباء، ومنهم من يتمّ ارغامهم على القعود على قارورات الزّجاج حتّى تلج في أمعائهم … فنتسلّى بها في مجالس السّمر، ولم نكن ندرك ونحن صغار في سن الحداثة حجم المعاناة وأنّه “غيض من فيض”، إلاّ حين كبرنا وقرأنا عن الاحتلال البغيض.

كنا حين يطلع النهار وأحيانا قبل طلوع الشمس نطلق العنان لأنفسنا، يأخذنا الشوق والجموح إلى حيث مربّعات اللّهو واللّعب في الخارج، تجمعنا كرة؛ نصنعها من بقايا أقمشة وجوارب قديمة تتقاذفها، وتفرّقنا لعبة اسمها “الغمّايضة”. وهكذا، حتى يأتي وقت الحاجة فنعود إلى البيت مسرعين.

وفي أماسي نهاية الأسابيع نذهب إلى مقهى معروف توجد به شاشة قديمة من نوع الأبيض والأسود لا يوجد غيرها في تلك الأيام، نشاهد بعض المسلسلات والأفلام الأجنبية، كأفلام الويسترن والأفلام الهندية وغيرها… ثم نعود في آخر المساء لنعرّج على “الغانيا” لمشاهدة ألعاب اليانصيب ونحن صغار لم يكن يسمح لنا سوى بالمشاهدة والمراقبة من بعيد.

– فتحتُ عينيّ في هذا الجو المشحون باللّهو واللّعب مع أبناء العمومة الذين يكبرونني ببعض السّنوات، نلتقي أوقات الفراغ ثم نختلف فيذهبون هم إلى المدرسة، بينما أُرغم على الذّهاب إلى “الجامع” أو الكُتّاب الموجود بإحدى قاعات المسجد الوحيد آنذاك. وكان “الطّالب” (سي أحمد) وهو معلّم القرآن يجلس كل صباح جنب النّافذة يحتسي فنجان القهوة الممزوج بعروق الشّيح بيدٍ وعينه على “القدادشة” الذين ترتفع أصواتهم فلا يُفهم منهم شيء، وفي يده الأخرى عصا زيتون يهشّ بها مرّة على “قدّاش” أخذته غفوة، ومرّة على ذبابة لسعته. أمّا في المساء فيأتيه إناء لبنٍ سائغٍ من عند أحد الجيران محفوف بزُبدة صفراء تسيل اللّعاب.

أفقتُ من اللّهو واللّعب، فوجدتني أرقدُ في “الساناتوريوم” بمدينة(سوق أهراس) المجاورة لقريتنا، والسّبب في ذلك “إكزيما” أصابتني في ساقي اليسرى لم ينفع معها ما كانتْ تضعه أمّي فوقها من مَراهِم وبعض الأعشاب، وكم سهرتْ اللّيالي الطّوال وهي تحاول أن تسكن آلامي، لكن كل ذلك لم ينفع معي. فاظطرّ الوالد المسكين أن يأخذني إلى هذا المستشفى الذي يقع في إحدى ضواحي اللمدينة وهو عبارة عن بناية قديمة تعود إلى عهد الاحتلال، وكان رجل يسمّى (حمّة) من معارف أبي قد وُكِّل بي باعتباره من القرية. وكان هناك أولاد يرقدون بذات المستشفى ألعب معهم وأحيانا أُخاصمهم، وذات يوم تخاصمتُ مع أحدهم فقلتُ له: “زَعَّكْ” بتشديد الفتحة على العين. وكان هؤلاء “البلْدية” كما يسمّونهم، وهم المتبجّحون من أبناء البلْدة الذين يعتبرون أنفسهم من الطبقة الرّاقية وينعتون غيرهم من أبناء القرى والرّيف بـ”الشّعراوية”المتخلّفين. لذلك حين سمعوا عبارة “زعّكْ” تلك استغربوا وارتفعتْ أصواتهم بالضّحك وأخذوا يردّدونها من باب التهكّم و السّخرية. وهم لا يقولون لمن يريدون قطع صلتهم به “زَعّكْ” بل “فاشي”، على الرّغم من أنّ “فاشي” كلمة أجنبية.

ومن تلك اللّحظة وهم ينظرون إليّ بازدراء حتى غادرتُ المستشفى، والحمد لله أنّني تلفّظتُ بتلك الكلمة وهي من الدّارجة العاميّة، وقد كنتُ قبل رحيلنا إلى مدينة(عنّابة) بسنتين على ما أظنّ لا أتكلّم سوى “الشّاويّة”. أقمنا في تلك المدينة الساحلية ما يربو عن سنة، وكان عمري لايزيد عن ثلاث أو أربع سنوات حين فررتُ من بيتنا بالعمارة وتهتُ في شوارعها الضيّقة والعريضة ولم أفق إلاّ وأنا جالس في مقهى اشرب قازوزة مع أبي ورجال الدّرك، الذين لستُ أدري كيف عثروا عليّ، من حولي. كثّر الله خيرهم وخير مدينة (عنّابة) التي تعلّمتُ فيها اللّهجة العاميّة على حساب”الشّاويّة” وإلاّ لكاد يكون الأمر مع هؤلاء “البلْدية” أكثر شناعة.

يتبع …/…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى