مقال

وفاء الرسول ووفاء عمر.

وفاء الرسول ووفاء عمر.

بقلم / محمـــد الدكـــرورى

 

لقد كان النبي الكريم محمد صلي الله عليه وسلم عظيم الأخلاق وكريم السجايا يحبه الملك والمملوك والصغير والكبير والرجل والمرأة والغني والفقير والقريب والبعيد لأنه ملك القلوب بعطفه وأسر الأرواح بفضله وطوق الأعناق بكرمه، فقد امتلئت حياته بكثير من المواقف مع أهلة وخدمة مع الفقراء والمساكين مع الأطفال وكبار السن كما امتلت بالجود والكرم والوفاء، فكان صلي الله عليه وسلم مع خدمه احلم الناس يمازحهم ويلاطفهم ويعفو عنهم فيما صدر منهم ويدخل عليهم بساما ضحاكا، يملأ بيوتهم وقلوبهم أنسا وسعادة فيقول خادمه انس بن مالك رضى الله عنه خدمت رسول الله صلي الله عليه وسلم عشر سنين ماقال لي في شيء فعلته لمَ فعلت هذا ؟ ولا في شيء لم افعله، لمَ لم تفعل هذا ؟ وهذا غاية الحلم ونهاية حسن الخلق وكل من رافقه أو صاحبه.

 

أو بايعه صلي الله عليه وسلم يجد من لطفه ووده وحلمه ما يفوق الوصف حتى تمكن حبه من القلوب فتعلقت به الأرواح ومالت له صلي الله عليه وسلم نفوس الناس بالكلية، ولقد كان هناك وفاء من النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم مع الكفار ففي العام السادس الهجري، عقد المشركون مع المسلمين صلح الحديبية، وكان من شروط الصلح أنه إذا أسلم أحد من المشركين، وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فعليه رده إلى قومه، وبعد عقد الصلح مباشرة، جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وأعلن إسلامه، فلما رآه أبوه سهيل بن عمرو الذي كان يعقد الصلح مع النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه وعنفه، وقال ” يا محمد، قد ولجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا” قال صدقت وصاح أبو جندل بأعلي صوته، يا معشر المسلمين أراد إلي المشركين يفتنونني في ديني؟

 

فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم لأبي جندل ” أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد صالحنا هؤلاء القوم وجري بيننا وبينهم العهد، وإنا لا نغدر بهم” رواه الإمام أحمد، وعن حذيفة بن اليمان قال، ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي، حسيل، قال فأخذنا كفار قريش، قالوا إنكم تريدون محمدا؟ فقلنا ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلي المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فقال ” انصرفا، نفي بعهدهم ونستعين الله عليهم” ومع وفاء عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقد أتى شابّان إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان في المجلس، وهما يقودان رجلا من البادية فأوقفوه أمامه، قال عمر ما هذا؟ قالا يا أمير المؤمنين، هذا قتل أبانا.

 

قال أقتلت أباهم؟ قال نعم قتلته، قال كيف قتلتَه؟ قال دخل بجمله في أرضي، فزجرته فلم ينزجر، فأرسلت عليه ‏حجرا وقع على رأسه فمات، قال عمر النفس بالنفس، لا بد أن تقتل كما قتلت أباهما، قال الرجل يا أمير المؤمنين، أسألك بالذي رفع السماء بلا عمد ‏أن تتركني ليلة لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية، فأخبرهم ‏بأنك ‏سوف تقتلني ثم أعود إليك، والله ليس لهم عائل إلا الله ثم أنا، قال عمر مَن يكفلك أن تذهب إلى البادية ثم تعود إليّ؟ فسكت الناس جميعا لأنهم لا يعرفون اسمه ولا داره ‏ولا قبيلته، فكيف يكفلونه؟ فسكت الناس وعمر متأثر لأنه ‏وقع في حيرة، هل يقدم فيقتل هذا الرجل وأطفاله يموتون جوعا هناك؟ أو يتركه فيذهب بلا كفالة فيضيع دم المقتول؟ وسكت الناس ونكس عمر ‏رأسه والتفت إلى الشابّين أتعفوان عنه؟ قالا لا، مَن قتل أبانا لا بد أن يُقتل يا أمير المؤمنين.

 

قال عمر مَن يكفل هذا أيها الناس؟ فقام أبو ذر الغفاري بشيبته، وقال يا أمير المؤمنين، أنا أكفله، قال عمر هو قتل، قال ولو كان قاتلا، قال أتعرفه؟ قال ما أعرفه، قال كيف تكفله؟ قال رأيت فيه سمات المؤمنين فعلمت أنه لا يكذب، وسيفي بعهده إن شاء الله، قال عمر يا أبا ذر، أتظن أنه لو تأخر بعد ثلاث أني تاركك؟ قال الله المستعان يا أمير المؤمنين، فذهب الرجل وأعطاه عمر ثلاث ليال، يُهيّئ فيها نفسه، ويُودع ‏أطفاله وأهله، وينظر في أمرهم بعده ثم يأتي ليُقتص منه لأنه قتل، وبعد ثلاث ليال لم ينسي عمر الموعد، وفي العصر ‏نادى ‏في المدينة الصلاة جامعة، فجاء الشابّان، واجتمع الناس، وأتى أبو ‏ذر ‏وجلس أمام عمر، قال عمر أين الرجل؟ قال ما أدري يا أمير المؤمنين، وتلفت أبو ذر إلى الشمس، وكأنها تمر سريعة على غير عادتها، وقبل الغروب بلحظات، إذا بالرجل يأتي.

 

فكبّر عمر وكبّر المسلمون‏ معه، فقال عمر أيها الرجل أما إنك لو بقيت في باديتك ما شعرنا بك ‏وما عرفنا مكانك، قال يا أمير المؤمنين، والله ما عليّ منك ولكن عليّ من الذي يعلم السر وأخفى، ها أنا يا أمير المؤمنين، تركت أطفالي كفراخ‏ الطير لا ماء ولا شجر في البادية، وجئت لأقتل، وخشيت أن يُقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس، فسأل عمر بن الخطاب أبا ذر الغفاري لماذا ضمنته؟ فقال أبو ذر خشيت أن يُقال لقد ذهب الخير من الناس، فوقف عمر وقال للشابّين ماذا تريدان؟ قالا وهما يبكيان عفونا عنه يا أمير المؤمنين لصدقه ووفائه بالعهد، وقالا نخشى أن يُقال لقد ذهب العفو من الناس، قال عمر بن الخطاب الله أكبر، ودموعه تسيل على لحيته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى