مقال

الدكروري يكتب عن الإمام إبن الجوزي “جزء 6”

الدكروري يكتب عن الإمام إبن الجوزي “جزء 6”
بقلم / محمـــد الدكـــروري

ونكمل الجزء السادس مع الإمام إبن الجوزي، وكان شيخا مسنا قد جاوز الثمانين، فبقي وحده يطبخ لنفسه، ويغسل ثيابه لنفسه، ممنوع عليه الاجتماع مع الناس، أو الجلوس للوعظ كما هي عادته، ولاقى ضروبا من المحن والهم والتعب طيلة خمس سنوات في النفي، ولم يكتف الركن عبد السلام بما فعله مع الشيخ ابن الجوزي من الإهانة والنفي والتشريد، والسجن الانفرادي، بل حاول التوصل إلى والي مدينة واسط، وكان شيعيا أيضا ليقتل ابن الجوزي، فقال الوالي للركن يا زنديق، أفعل هذا بمجرد قولك؟ هات خط أمير المؤمنين، والله لو كان على مذهبي لبذلت روحي في خدمته، فخاب سعي الركن، وفشلت خطته، ولكن لم يمنع ذلك من التضييق على ابن الجوزي وحبسه، تلك المحنة الكبيرة التي نزلت بالشيخ ابن الجوزي وهو في أواخر عمره.

وبعد أن جاوز الثمانين قد زاد من ألمها جناية ولده أبي القاسم عليّ على تراث أبيه العلمي، ونتاجه الـتأليفي، إذ تسلط ذلك الولد العاق الفاسق على كتب أبيه، وكانت مئات المجلدات في شتي الفنون، وباعها بالأحمال، وشرب بثمنها الخمر، وتجاهر بذلك الفحش والخسة، والأب يعاني في غربته ووحدته مرارة ذلك الجحود والنكران، وقد ظل الشيخ ابن الجوزي في محنته بين النفي والسجن والإهمال والإهانة خمس سنوات كاملة كانت كفيلة بتحطيم عزيمة أي رجل قوي، وليس شيخا طاعنا في السن، ولكن الشيخ العلامة ابن الجوزي، الذي طالما وعظ الناس، وذكرهم وصبرهم، ورغبهم ورهبهم، حول محنته إلى محنة عظيمة، وروض تلك المحنة الأليمة، فاستغل تلك السنوات الخمس في قراءة كتب الحديث، والتلاوة بالعشر قراءات للقرآن على يد الشيح ابن الباقلاني.

وأبدى همة عالية في ذلك، حتى أتم حفظ القراءات العشر وهو في الرابعة والثمانين من العمر، وفي سنة خمسمائة وخمسة وتسعون من الهجرة، أذن له الله عز وجل في رفع المحنة، وفك الكربة، وذلك بشفاعة أم الخليفة الناصر العباسي، وعاد ابن الجوزي من منفاه في واسط إلى بغداد، وأذن له في الوعظ كما كان، وعاد إلى مكانته وعزه وسؤدده، وحضر الخليفة العباسي بنفسه أول مجالس وعظه، وكانت كلمات ابن الجوزي مؤثرة، ملهبة، وقد خرجت من قلب احترق بالمحن، حتى خرج نقيا من كل شائبة، وبعد ذلك بقليل مرض ابن الجوزي، ثم مات في منتصف شهر رمضان سنة خمسمائة وسبعة وتسعون من الهجرة، فرحمة الله عليه، وتجاوز عنه، وغفر له ما خاض فيه من تأويل، وغير ذلك.

وأما عن ضريحه، فقد بناه موسى باشا أيام السلطان إبراهيم سنة ألف وستمائة وستة وأربعون للميلاد، وكان موقع القبر في باب حرب، وهو قرب قبر الإمام أحمد بن حنبل إلا أنه خشي عليه من الضياع فقام موسى باشا بنقله لموقعه في سوق السنك، والقبر ما زال موجودا الآن في أرض فارغة تابعة للوقف وبني وشُيّد عليه صف من الطابوق ووضع حوله سياج من حديد لمنع العبث به.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى