مقال

الدكرورى يكتب عن مفهوم الأم في الإسلام ” جزء 8″

الدكرورى يكتب عن مفهوم الأم في الإسلام ” جزء 8″
بقلم / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الثامن مع مفهوم الأم في الإسلام، فإن الأم تقاسي مرارة القيء والوحام، يتقاذفها تمازج من السرور والفرح لا يحس به إلا الأمهات ، تحمل جنينها وهنا على وهن، تفرح بحركته، وتقلق بسكونه، ثم تأتي ساعة خروجه فتعانى ما تعانى من مخاضها، حتى تكاد تيأس من حياتها، ثم لا يكاد الجنين يخرج في بعض الأحايين غلا قسرا وإرغاما، فيمزق اللحم، أو تبقر البطن، فإذا ما أبصرته إلى جانبها نسيت آلامها، وكأن شيئا لم يكن إذا انقضى، ثم تعلق آمالها عليه، فترى فيه بهجة الحياة وسرورها، ثم تنصرف إلى خدمته في ليلها ونهارها، تغذيه بصحتها، وتنميه بهزالها، تخاف عليه رقة النسيم وطنين الذباب، وتؤثره على نفسها بالغذاء والنوم والراحة، تقاسي في إرضاعه وفطامه وتربيته ما ينسيها آلام حملها ومخاضها، فسبحان الله الذى جعل قلب الأم آية من آياته.

وأسكن فيها معان من سره، فهي يد لا تعرف إلا العطاء, وقلب لا يعرف إلا الحب والصفح والغفران, ووجه لا يعرف إلا الإقبال والابتسام, فهى سهولة كل صعب, ويسر كل عسير، فإن الأم إنها مذيب الهم الذي يحيل حياتك إلى لطف خالص, ومزيل الغم الذي يبعث فيك نسائم الأمل وينفث فيك البهجة الحياة, إنها الترياق الذى يعالج سموم الدنيا ويطبب علتك، وإن أيادي الأم التي طالما مدت بكل أسباب الرحمة والعطاء, آن لك أيها الابن اليوم أن تنحني وتقبلها, وتلك الهامة التي طالما طاولت عنان السماء لتسمو بك وترقى آن لك أن تتوجها بكل أسباب البر، فيا أماه، دعيني أنظر في وجهك لأرى عقوقي وصبرك , وأنظر في عينيك لأرى جحودي ونكراني وعظيم حلمك, دعيني ألمس يدك لأرى دف عطائك وروعة وصالك, ماذا أقدم لك اليوم لأقر بتقصيرى وعقوقى؟

وماذا اقرأ في كتابي غير جهلى ورحمتك؟ وماذا أرى فيه إلا أسبابا من عطائك وأسبابا من جحودي ؟ أمي هى كلمة تعطر أنفاسي وتملأ خاطري نورا وأمنا, أمي هى كلمة جمعت من كل شيء جماله, ومن كل معنى جلاله, ومن كل وصل وصاله, إنها الرحمة والرّحم، أمى دعيني أنظر إليك لأرى النور الباسم بإشراق نفسك, ودعيني أحلق في السماء بروعة إقبالك واستقبالك, دعينى أقبل يديك وراسك, يا رائحة الشمس وعفو الظل وبر النور, يا باقة الحب يا رواء الروح, يا أبهى عطاء الرب، فإن كانت الأم حبا فهي أجمله, وإن كانت عطاءا فهي أفضله, وإن كانت احتواء فهي أكمله, فالأم هي الثوب الذي تلبسه فيمنحك الحياة بكل معانيها، إنها الكائن الضعيف الرقيق الذي يتحول إلى بركان ثائر ووحش كاسر إذا مس أولادها مكروه أو أرادهم أحد بسوء.

وما أجمل قول من قال وقد أكد المصطفى صلى الله عليه وسلم المنزلة العالية للأمهات وفضل برهن في غير مناسبة، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبى هريرة رضى الله عنه قال، جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتى قال أمك، قال ثم من؟ قال ثم أمك، قال ثم من ؟ قال ثم أمك، قال ثم من ؟ قال ثم أبوك ” فإن مقتضى البر بالأمهات مترتب على المعنى الشامل لكلمة البر، فهي كلمة جامعة لخيرى الدنيا والآخرة، وبر الأمهات يعني الإحسان إليهن وتوفية حقوقهن، وطاعتهن في أغراضهن في الأمور المندوبة والمباحة، لا في الواجبات والمعاصي، ويكون البر بحسن المعاملة والمعاشرة، وبالصلة والإنفاق، بغير عوض مطلوب، ويدخل في ذلك إيناسهن وإدخال السرور على نفوسهن بالأقوال والأفعال.

ولأن الأم ضعيفة بضعف الأنوثة ورقة الحنو وتواضع الشفقة فقد يغتر بعض الأبناء والبنات فتحملهم نفوسهم على تقاصر قدر الأم والاندفاع نحو عقوقها، بخلاف ما يجدونه من المنعة عند الآباء، وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال” وقد قال العلماء أنه لقد خص الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم الأمهات بالذكر وإن كان عقوق الآباء عظيما، وذلك لأمور منها لأن حرمتهن آكد من حرمة الآباء، ولأن العقوق إليهن أسرع من الآباء، لضعف النساء وتجبر الأولاد عليهن، ولأن أكثر العقوق يقع للأمهات، ولينبه على أن بر الأم مقدم على بر الأب في التلطف والحنو ونحو ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى