مقال

الدكروري يكتب عن الإمام الحريري ” جزء 3″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام الحريري ” جزء 3″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

وقيل أنه كان الحريري دميما، قبيح المنظر، فقيل جاءه رجل غريب يزوره ويأخذ عنه شيئا، فلما رآه استزرى شكله، ففهم الحريري ذلك منه، فلما التمس منه أن يملي عليه قال له اكتب ما أنت أول سار غرة قمر، ورائد أعجبته خضرة الدمن، فاختر لنفسك غيري إنني رجل، مثل المعيدي فاسمع بي ولا ترني، فخجل الرجل من القاسم الحريري وانصرف، وكان أبو محمد الحريري أحد أئمة عصره، وبلغ شأنا عظيما في عمل المقامات، والتي اشتملت على كثير من كلام العرب من لغاتها، وأمثالها، ورموز أسرار كلامها، ومن عرفها حق معرفتها استدل بها على فضل هذا الرجل وكثرة اطلاعه وغزارة مادته، وأما عن كتابة المقامة الرابعة والتي توجد الآن في المكتبة الأهلية في باريس، وكان سبب وضعه لها أنه كان جالسا في مسجده فدخل شيخ ذو طمرين، عليه أهبة السفر، رث الحال، فصيح الكلام، حسن العبارة، فسألته الجماعة من أين الشيخ؟

 

فقال من سروج، فاستخبروه عن كنيته، فقال أبو زيد، فعمل الحريري المقامة المعروفة بالحرامية، وهي الثامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد المذكور، واشتهرت مقامته هذه، فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر أنوشروان، فلما وقف عليها أعجبته، وأشار على الحريري أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين مقامة، وإلى الوزير المذكور أشار الحريري في خطبة المقامات بقوله فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها البديع، وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع هكذا وجدته في عدة تواريخ، والراجح أنه قد صنفها للوزير جلال الدين عميد الدولة أبي علي الحسن بن أبي العز علي بن صدقة، وجعل الحريري راويها أبو زيد السروجي، وبطلها الحارث بن همام، ولما عمل أبو محمد القاسم الحريري المقامات، حملها من البصرة إلى بغداد وادعاها، فلم يصدقه في ذلك جماعة من أدباء بغداد، وقالوا إنها ليست من تصنيفه.

 

بل هي لرجل مغربي من أهل البلاغة مات بالبصرة ووقعت أوراقه إليه فادعاها، فاستدعاه الوزير إلى الديوان وسأله عن صناعته، فقال أنا رجل منشئ، فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعة عينها، فانفرد في ناحية من الديوان، وأخذ الدواة والورقة ومكث زمانا كثيرا فلم يفتح الله سبحانه عليه بشيء من ذلك، فقام وهو خجلان، وأما عن أقوال العلماء في الحريري، فقد قال عنه الذهبي أنه حامل لواء البلاغة، وفارس النظم والنثر، وقال عنه أبو العباس الشريشي عنه أنه كان آخر البُلغاء وخاتمة الأدباء، أولهم بالاستحقاق، وأولاهم بسمة السباق، والفذ الذي عقمت عن توءمه فتية العراق، وفارس ميدان البراعة، ومالك زمام القرطاس واليراعة، والمُلبي عند استدعاء دُرر الفقر بالسمع والطاعة، أبو محمد القاسم بن علي الحريري، سقى الله ثرابه صوب رحماه، وكافأ إحسانه في الثناء عليه بحسناه، ولم يُبق في البلاغة متعقّبا.

 

ولا للريادة مترقبا، لا سيما في المقامات التي ابتدعها، والحكايات التي نوعها وفرعها، والمُلح التي وشحها بدرر الفقر ورصعها، وقال عنه ياقوت الحموي كان غاية في الذكاء والفطنة والفصاحة والبلاغة، وله تصانيف تشهد بفضله وتقر بنبله، وكفاه شاهدا كتاب المقامات التي أبر بها على الأوائل وأعجز الأواخر، وكان مع هذا الفضل قذرا في نفسه وصورته ولبسته وهيئته، قصيرا دميما، بخيلا، مبتلى بنتف لحيته، وكما قال عنه ابن السمعاني عن الحريري لو قلت إن مفتتح الإحسان في شعره، كما أن مختتم الإبداع في نثره، وأن مسير الحُسن تحت لواء كلامه، كما أن مخيم السحر عند أقلامه لما زلقت من شاهق الإنصاف إلى حضيض الاعتساف، وكما قال ابن السمعاني عنه أيضا هو أحد الأئمة في الأدب واللغة، ومن لم يكن له في فنه نظير في عصره، فاق أهل زمانه بالذكاء والفصاحة وتنميق العبارة وتجنيسها، وكان فيما يُذكَر غنيا كثير المال.

 

وقال العماد في كتاب الخريدة لم يزل الحريري صاحب الخبر الذي ينقل الأخبار للخليفة بالبصرة في ديوان الخلافة، ووجدت هذا المنصب لأولاده إلى آخر العهد المقتفوي، وقال عنه ابن فضل الله العمري في كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، هذا والدهر من دواته، والناس سواء في عدم مساواته وهو مادة الأدب، الذين ينسلون إليه من كل حدب، إلا أنه لم يقدر أن يكون مكلفا، ولا استطاع أن يكون لغير أمالي خاطره متلقفا، وهذا مذهب غير مذهب كتاب الإنشاء المكلفين اتباع غرض غيرهم، حتى يقسروا خواطرهم على ذلك على أن الرجل فضله عظيم، ومثاله الدهر به عقيم، وقدره جليل، ونظيره قليل منبع الفضائل ونبعتها، وصيت الفواضل وسمعتها توقته الأعداء سماما، وألقته الأولياء سهاما وكان معدن كل نائل، وموطن كل طائل باري غرب يريش ويبري، ويجيش قليب حاطره ويجري، أبرز ما لم يستطعهُ الأوائل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى