مقال

من قتل القدس وأخواتها

جريدة الاضواء

من قتل القدس وأخواتها

كتب / يوسف المقوسي

 

البداية ليست من جنين. بداية، هناك موت منسي. موت طاعن ويابس. انحسرت الأجيال وغادرت سماءها وقمرها. الوطن كلمة مؤلمة وجارحة. الوطن يعيش موته مراراً. هناك بلدات وقرى تحثك على البكاء. . طعم الدمع ملح. حطب لحرائق التشرد والغياب. تشلعت العائلات. تقلصت القرابة، لا أحد يحلم بمستقبل فيها. ماضيهم أضغاث آلام وحنين.

 

من فقد وطناً انشطر، بين “الهنا” الفارغ والصامت والساكن، حيث يعتاد المهاجر- المهجر على حسرة الرجوع المستحيل وحسرة الإقامة في منفى جميل. نعم جميل، ولكنه منفى. يحتضن الحسرة ويُصمِت الأشواق. فجنين مسقط أرواحنا. نحن لسنا جسداً فقط. الحنين إليها عن بعد، دليل على أن مدننا و قرانا، جزءٌ من أرواحنا.

 

البداية ليست من جنين. أعرف أنها قتلت عمداً. تمت تصفيتها. كانت نموذجاً لأناس أصيبوا بحب لا يوصف لمدينتهم، كما لمدن وقرى، أغلقت أبوابها، فاستحقت أن تصبح خرائب للبوم ينعق فيها ليل نهار.

 

إنه موت من نوع خاص. يقيم بين جدران ونوافذ القرى والمدن المصابة بالصمت وحفيف الفراغ. قرى ومدن هجرتها بيوتها. لا رائحة فيها للناس. بيوت تنوء إذ تفتقد ابناءها. بيوت أيقنت أن رائحة ناسها تشبه حنيناً مضاداً للغياب.

 

نعم، هناك في فلسطين ، قتلٌ للقرى والبلدات أمام أعين ناسها. أناس هربوا من يتمها ويباسها وسجود أسطحها على ركبتين وركام. البقاء في المدن و القرى البائسة واليائسة قتل بطيء. أشد إيلاماً من قطع الشجر والبشر.

 

هذه الكتابة، ليست كالوقوف على الأطلال. نحن أمام عدم منتصر على أحياء، بشراً وحجراً. إنها تهدف إلى معرفة الاسباب الواضحة، لقتل مدينتي و قريتي، وقرى بائسة ومحرومة، ما يدفعُ أبناءها إلى ركوب المراكب، نحو مجهول، يصلون إليه، كأحياء عند ربهم، قد لا يرزقون.

 

من قتل مدننا و قرانا. من أفرغ ساحة الشهداء من سكانها وكيف صارت أبوابها مهجورة. هل هذه الساحة تعرف شهداءها المكتومين. أين هم من ولدوا وكبروا وأنتجوا. القدس عاصمة للعرب. تغير العنوان. كل بلد له ما يخصه. نحن، لم يعد عندنا إلا ذكريات جارحة. اختل كل اساس.

 

القدس تنزف. اسألوا الشهداء. إنهم شاهدين على تحجر المدينة. لقد تم حذف الجميل والرائع وكل من عاش هناك. صارت خربة بعشر نجوم.. وبرغم هذا التعري والتوحش “العمراني” الفارغ، لا نقول للقدس وداعاً. الوداع يليق بالقرى التي غيّبوها، وما زالوا. تحتاج القدس إلى صلاح الدين ، ليقوم من بين الأموات.

 

القدس ليست وحدها على مقصلة الهجرة. في طريقي إليها، أقف أمام أطلال مدن. حضنتني ذات يوم بعضها فيها مني، شعر وكتابة ورفاق. لم يعد ذلك الزمن زمناً. عندما يتوقف الزمن، قُلْ أن الحياة موت. القدس كانت العروس التي يخطب ودها الآلاف. تعبر فيها، ولا تسمع حشرجة. الضوء أغمض عينيه. إنها اليوم رصيف بلا أقدام. أهلها في كل نسيان يتذكرون. يتذكرون عهداً ذهبياً. هي احتفاء دائم بالأبناء والأصدقاء. ها هي تعاقر غبار الطرقات صيفاً، وقسوة الريح شتاءً. أهلها في كل نسيان يتذكرون فيما شفاههم ترتج وترتجف متلعثمة بصور الماضي الجميل. من زمان بعيد، تم اعدام أهلها وأصبحت مدينة يأكلها الصدأ والحسرة. حسرة الذكريات.

 

القدس خلفنا. العاصمة التي كنا نعرفها تصحّرت من ناسها. كل ناسها، وكل روادها ومريديها. إنها قاع صفصف. القدس وضواحيها باتت مكباً للناس. من يستعيد مسارها الرائد على امتداد قرن، يفرك يداً بيد ويتمتم: “راحوا، مثل الحلم راحوا”. مدينة جنين تشبهها. حالة يتمٍ وغربة وذكريات بهية: “ما في حدا، لا تندهي، ما في حدا”.

 

مدينة نابلس من قتلها؟ هل كان قتلها بالتقسيط، وعمداً؟

 

نابلس كغيرها من مدن نزفت ناسها. كانت بلدة نامية، مزدهرة، حظها من الطبيعة ماء وفير وغزير، وأرض معطاء، ونقطة لقاء قرى كثيرة. سوق نابلس مقصد الفلاحين والعمال والمزارعين. في ذلك الزمن، كانت نابلس مدينة نشيطة جداً. صناعية بامتياز، حاضنة لناسها. إلى أن أتى الكيان الصهيوني للبوح بأن دور نابلس لن يكون ممراً للتجارة الحرة. نابلس ليس للصناعة ولا للزراعة. نابلس مصرف تجاري. رفعوا القيود عن الإستيراد. عقيدة ذلك الزمن كانت “تاجروا واربحوا”. انفتحوا على الاحتلال. تعاملوا معاملة الاسواق. مال ينجب مالاً. رأسمال تحكمه طغمة من المصارف والتجار.

 

كانت نابلس مدينة نشيطة. ناجحة في تأمين حياة كريمة، بتعب الجبين. لم تشهد المدينة هجرة. كانت نابلس، تستقبل كثيراً، وتودع قليلاً. باختصار كانت مدينة واعية وحاضنة لأبنائها. طبعاً فيها فقراء وأغنياء. ولكن على العموم، هذه الفجوة تردمها أياد سخية.

 

تاريخ نموذجي تاريخ نابلس. من يصدق، أن مدينة كبيرة في الطرف الجنوبي الضفة الفلسطينية وبوابة مفتوحة على الجنوب، تقدم على تأسيس صناعة منافسة. الصابون في نابلس، استحوذت على اهتمام الصحافة الفلسطينية ، فكتبت عنها شهادة حسن سلوك، وانتاج وفير، وزراعة ناجحة، وصناعة مترامية الاطراف. من يعرف، أن الصابون في نابلس، صار لها فروع في دمشق، في فلسطين (قبل الاحتلال).

 

أفرزت صناعة الصابون النابلسي طبقة عمالية (بروليتاريا) تطمح إلى زيادة الأجور. هذا طموح فذ لابناء نابلس الذين ينتمون إلى نابلس وقراها إنتماءً يفوق وفاقهم الديني.

 

ولأنها نجحت صناعياً وكهربائياً وتجارياً وزراعياً، صارت عاصمة الجنوب، ليس بالسياسة، بل بالانتاج والانفتاح، وكون الخلافات تعالج بالحوار والود والمسؤولية. هذه المدينة، صارت ممراً ومستقراً، لكل انتاج المنطقة، إنها خزانات العافية. غير أن هناك كميناً بليغاً أصيبت به البلدة. التعليم يأتي في آخر القائمة. الشغل افضل من الكتاب. الذين تعلموا في ما بعد، ما عادوا إلى نابلس. فضلوا العاصمة عمان أو الهجرة إلى المنافي “السعيدة”. لم يُعلن الحداد عليها إنما هي حزينة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى