مقال

الذبابة الحمقاء

الذبابة الحمقاء

بقلم/ أحمد عيسى

في إحدى رياض المعمورة استيقظت عنكبوتٌ على صوت طنين ذبابة هَزِجة، كانت تختال تطير لحظة وتحطّ لحظات، كأنها تتمثل قول عنترة في معلقته:

وخلا الذبابُ بها فَلَيسَ بِنَازحٍ***غَرِداً كفِعْلِ الشَّارِبِ المترنِّمِ

هَزِجاً يحُكُّ ذِرَاعَه بِذِرَاعِه***قَدْحَ المُكبِّ عَلَى الزِّنَاد الأجْذَمِ

هكذا جعلت هذه الذُّبَابة الوافدة على الروضة تنتشي لمّا حلَّت بها، وتترنم ترنُّم السكارى بالعذارى، وشرعت تسنّ يدها بيدها من الطرب الذي اعتراها.

يُشبِّه شاعرنا عنترة، في سابقة شعرية تصويرية خالدة له، الذُّبابة برَجُلٍ أجذم (مقطوع اليدين أو قصيرهما) انكبَّ على وجهه يسن زناداً بجُمع ذراعيه شحذاً وصقلاً.

ومن أسفٍ أن كانت نهاية الذبابة الحمقاء مأساوية حيث وقعت فريسة بين فكي عنكبوت خبيثة متربصة.. فكيف كان ذلك؟

وإلى قصتنا..

الذُّبَابة: أسمعُ صوتَ العندليب!

العنكبوت: صوته هنا يبدو بوضوح!

الذُّبَابة: من يغنّي معي.. أمَّن تراه ينوح؟

العنكبوت: صديق الحشرات أينما تغدو وتروح.

الذُّبَابة: الصديق وقت الضيق، وبيت العناكب بغيره يضيق.

العنكبوت: كيف يضيق وفيه مستراح للعدو والصديق؟!

الذُّبَابة: زارته أمي مرةً فبكاها أبي قائلاً: لن تعود!

العنكبوت: قَدَرٌ أصابها في داري فدفنتُها هنا بجواري.

الذُّبَابة: تعنين أن قبر أمي من هنا قريب؟!

العنكبوت: نعم.. ورسالة منها مكتوبة للحبيب.

الذُّبَابة: عليها أطلعيني.. أو إياها ناوليني!

العنكبوت: أوصتْ أمُّك أن تودع الرسالة مع الجثمان.

الذُّبَابة: لكن أخي قد هلك أيضاً في بيتٍ للعناكب ثان.

العنكبوت: أخوكِ اختفى قسرياً فلا قبر له ولا مكان.

الذُّبَابة: قالوا: إن آخر عهده كان قد أعطى الأمان!

العنكبوت: فرِّقي حبيبتي بين حقيقة وشائعة وأغان!

الذُّبَابة: إذن فهاتي وصاية أمي وافتحي لي قبرها والضريح.

العنكبوت: اقتربي لا تُراعي.. هنا لا ثمة نارٌ ولا حتى ريح.

الذُّبَابة: على أن تبتعدي لأطوف بالقبر وحدي من بعيد.

العنكبوت: لا يدخل القبر زائر إلا بعهد وعقد وشروط.

الذُّبَابة: ما هذه الشروط.. وما هاتيك العقود؟

العنكبوت: أن تتعطري بأنفاسي، وتتوشحي مني بالخيوط.

الذُّبَابة: وكيف أخلع نفسي منها حين أود أن أرجع وأعود؟

العنكبوت: بدايةُ خيط الصداقة على جسمك جيداً لفّيه.. ثم بعد فراغك عنكِ فكّيه.

الذُّبَابة: والوصاية والرسالة.. أين موقعها من القبر والضريح؟

العنكبوت: بعد الزيارة والدعاء ستقرئينها بدموعِ أسى ونحيب.

الذُّبَابة: على أن تتركي فرجة تكون منها عودتي والإياب.

العنكبوت: إنها داري فلا تماري.. فبيدي العَود والذَّهاب.

الذُّبَابة: الآن أطير أُخبر أبي ثم إليك أعود!

العنكبوت: لا، قد يكون وسنانَ فلا توقظيه بطنينك.. ولا تزعجيه!

الذُّبَابة: ها أنا قد دخلتُ المقبرة فأين الرسالة ونص الوصاية؟

العنكبوت: هناك بالضبط عند الرأس.. افتحي واقرئي جيداً النص.

الذُّبَابة: “العناكب صهاينة كاليهود.. فلا عقود ولا عهود”!

العنكبوت: هل فرغت من القراءة.. وانتهيت من الزيارة؟

الذُّبَابة: علمتُ الآن وفهمتُ.. وهلكتُ بحمقي إذ بك وَثِقْت!

العنكبوت: الآن.. هيا اكتبي رسالتك.. واتركي وصاتك.

الذُّبَابة: الحمقاء والخرقاء أنا.. إذ دَلَفْتُ لحتفي هنا!!

ثم أنشدت:

إلى حتفي سعى قدمي *** أرى قدمي أراق دمي!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى