خواطر وأشعار

قراءة في “سِفر التكوِين السومَري” للشاعر العراقي زكي العلي

قراءة في “سِفر التكوِين السومَري” للشاعر العراقي زكي العلي ..

بقلم أ. محمد الحميدي

 

قصيدة مطلة على العالم

 

 قصيدة “سفر التكوين السومري” للشاعر زكي العلي (العراق)، مهجوسة بالبدايات، ومشحونة بالرموز والدلالات، والكثير من الأسماء؛ لأشخاص وأماكن وأحداث، مما يفرض على القارئ؛ أن يكون واعياً وملمًّا بما احتوته، وإلا لن يخرج بشيء من قراءته، التي ستصبح عبثية ولا جدوى منها، وهو ما يتناقض مع هدف القصيدة، وما تسعى إليه.

“هذي الحروف التي بالكاد تفهمها

كانت مساميرَ أجدادي على الطين”

افتتاح القصيدة بالنقطة العمياء داخل التاريخ “العام صفر” إذ لا أحداث قبلها، وليس هناك ما يمكن أن يشار إليه على وجه الدقة والتحديد، ومن هذا العام تبدأ ملحمة الشاعر في التكوُّن والتخلُّق، حيث الاستعادة تشمل الأحداث التي جرت لاحقاً على الأرض والشخوص.

“(العام صفرٌ) ولا تاريخ يسبقه

وزرقة الدَّم سالت من شراييني”

تأخذنا القصيدة في رحلة (معرفية)، فالانطلاق من أوروك؛ المدينة المقدسة التي احتضنت جلجامش وأنكيدو، وشهدت ولادة النبي إبراهيم، وكذلك استقرت أحداث الطوفان العظيم عندها، حيث الألواح التي وجدت مدفونة؛ حكت ملحمة البحث عن الخلود، مثلم أرّخت للطوفان الذي غمر البشرية، ف”العام صفر” كما يصفه الشاعر، ليس المقصود به الفراغ المكاني، إذ من المحتمل وجود سكان سابقين، وإنما هو الفراغ التاريخي؛ الذي سوف يبدأ ملؤه وتدوينه منذ اللحظة، التي تم اكتشاف الألواح فيها.

العودة العميقة إلى التاريخ تستدعي ما بعدها، من أجل تواصل الأحداث وتسلسلها، فالاكتفاء بالحدث المؤسس؛ يعني قفزة كبيرة، وتجاهلاً واسعاً لمعطيات تاريخية وثقافية، وهو ما يبتعد عنه الشاعر؛ إذ يحاول البناء خطوة خطوة، وعبر تاريخ متماسك، يصل في نهايته إلى الحاضر الراهن والمعاش.

القصيدة تأخذ المنحى الذاتي الاستعادي، حيث الراوي العليم؛ مدرك لجميع التفاصيل، وهذا الصنيع يجعلها تقترب من فن القصة، الذي يتوسل ذات التقنيات الأسلوبية والحكائية، وكأن الشاعر في انغماسه داخل الحدث؛ يؤسس لشعرية مختلفة عن السائد، فلا يكتفي بعقد المقارنات، واستخدام البديع والبيان، بصورتهما القديمة، وإنما يريد الخلوص؛ إلى أن القصيدة تستوعب التقنيات الحديثة للأجناس الأدبية الأخرى.

الكثير من الأحداث، التي تتقاطع مع بعضها البعض؛ لتشكيل إنسان العصر الراهن، وإعطائه أبرز صفاته، فالقصيدة لا تتحدث عن التاريخ الثقافي للأرض بمعزل عن الإنسان، بل هي تضعه أعلى هرم الأولويات؛ وإلا لم يكن لها من فائدة، سوى التذكير بما مضى، وهو ما يمكن لكتّاب التاريخ وعلماء الآثار القيام به، أما هي؛ القصيدة المطلة على العالم، فعليها الاهتمام بالإنسان، واعتباره القيمة العليا، التي تتوجه إليه، ومن هنا نشأت التقاطعات؛ بين الشخصيات والأحداث، وبين الزمان والمكان، فهنالك “سرجون – كيش – الهور – الناصرية – سومر – أخمين – نيبور – المتنبي – بابل – أنشار – آكيش”، ثم يختم هذا العرض ببيت بالغ الدلالة:

“ما زلت لغزاً وما انحلت معادلتي

من أين جئت بعلمي أو بتقنيني”

تتجه القصيدة، بداية من هذا التساؤل؛ ناحية حل العقدة والنهاية، وكأنها تستعير أدوات القصة وتقنياتها حين الانبناء، والإجابة تحتمل العديد من الأقوال، فبعض قال: أصل الحضارة يعود لأناس قادمين من المجهول، أو من كواكب أخرى؛ ككوكب “نيبرو” الخرافي. آخرون قالوا: إن الحضارة بدأت من هجرة قبائل قوقازية إلى أرض نيبور وأوروك، وبعدها ابتدأ كل شيء. أصر آخرون: على أن هؤلاء قدموا من شواطئ الهند لا السهول القوقازية.

بعد (الشك) العميق في الأصل، يختم الشاعر قصيدته بـ(يقين) تام، هو اليقين الوحيد أمام كل الأقوال المشكوك في صحتها:

“هنا العراق الذي لا شيء يشبهه

إلا العراق وهذا العز يكفيني”

الكتابة على حافة الاصطدام؛ هو ما أجاده الشاعر، حيث دخل إلى القصيدة؛ كمستكشف، فالطرح الثقافي غالب على الطرح الجمالي، وهذا لا يعني اطِّراح الجمال نهائيًّا، فأساليب الجناس والطباق والمقابلة موجودة، لكنه لم يسعَ إليها، ويقصدها على حساب الدلالة، فالهدف؛ إيصال رسالة، ولهذا حشد الأسماء والأحداث والتفاصيل، واستوعب الأقاويل والشائعات، بل وأتى ببعض الخرافات وما لا يمكن تصديقه، كل ذلك من أجل أن يثبت للمتلقي أمراً واحداً: أن المتناقضات كلها لا تجتمع إلا في أرض العراق.

هكذا تحول الشعر من خطاب جمالي إلى خطاب احتجاجي، وظيفته إقناع المتلقي بما يقرأ ويسمع ويشاهد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى