القصة والأدب

الكروان الباكي….

الكروان الباكي….

بقلم/ أحمد عيسى

في عام ثمانية وسبعين وتسعمائة وألف، وفي يوم مشرق ناضر بهيج، وُلد “حمدي الطاهر” في أحشاء أبي قتادة، تلك المنطقة المنفوحة بالبركات النورانية الموغلة في الشعبية، والمغرقة في الجمع بين الأضداد والمتناقضات، والواقعة بين محطتي مترو فيصل وجامعة القاهرة.

شبَّ “حمدي” غلاماً فقيراً مثل أقرانه، تتقاذفه أمواج من المرح واللعب، وتتعاور عليه أيام وليالٍ من النصب والسغب، لكنه في ظل هذه الظروف البيئية والمادية غير الحانية، استطاع أن يمخر عُباب الفقر، ويبدد ظلمات الجهل باتصاله بكتاب الله الكريم وإدمانه على مدارسته وحفظه وتلقيه.

بدا “حمدي” كأنما ورث أشياءَ عن سيدنا موسى الكليم، فالبشرة ليست بيضاء، والأنف منتشر كبير، والعينان واسعتان جاحظتان، بيد أنك حين تراه تجذبك روحه فتسكن إليه نفسك، وإذا حدثته أحببته، فإذا ما سايرته وصادقته عشقته، وقد يتردد في قلبك قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39].

ومع مطلع التسعينيات عمل “حمدي” في مجال الألبان والأجبان بائعاً سمحاً بشوشاً بصحبة بعض الأقران والأصدقاء.

ثم سرعان ما واظب “حمدي” وبعض من هذه الصحبة الطيبة على الذهاب إلى مسجد التوبة بالجيزة، حيث مقرأة الشيخ محمود فرغل – رحمه الله – التي كان يُدرِّس الشيخ فيها أحكام تجويد القرآن الكريم من بعد صلاة العصر وحتى الساعة الحادية عشرة مساءً.

وفي مسجد النور بشارع سلام في أبي قتادة بدأت انطلاقة حمدي القرآنية، فبعد ختمه القرآن الكريم شارك في إمامة مسجد النور لا سيما في شهر رمضان الكريم قياماً وتهجداً واعتكافاً.

كان “حمدي” متميزاً في أدائه، عذباً في صوته، كما كان متمكناً أشد التمكن من حفظه؛ إذ المصلي خلفه لا يشعر بوطأة ولا نصب، ولا تململ ولا ضجر، ولا سآمة ولا ملل، وإن أطال “حمدي” الصلاة والدعاء واسترسل.

تتجاوزك الدقة إن نَعَتَ صوت “حمدي” بالجميل فحسب، فإن صوته آسر حين تسمعه، لا تقليد فيه ولا محاكاة، عليه طابع من التلقائية الخاشعة، ونور من الإحساس والمعايشة.

كان “حمدي” يرسل الآيات كريمات منسابات كقطر السماء وقت السحر يبلل أوراق الشجر، ويغسل القلوب من الدرن، ويؤذن بتنفس الصبح بعد انبلاج صولة الفجر.

عمل الشيخ “حمدي” حقبة من الزمن في تدريس القرآن الكريم وأحكام التلاوة والتجويد في مصر، ثم أخبرني أ/ سامح الصياد أنه سافر إلى المملكة العربية السعودية ليعمل معلماً للقرآن الكريم في محافظة (بدر).

وشهد لـ “حمديط كل من تعامل معه من المعلمين والمشرفين وأولياء الأمور بالكفاءة والهمة العالية، وكان طلابه من أكفأ الطلاب ومن أميزهم في الاختبارات، حتى أنه عندما ألجأت الظروف الشيخ “حمدي” للعودة إلى مصر لم يستطع طلابه على حداثة سنهم التأقلم مع مدرس آخر؛ لذا اضطرت إدارة جمعية التحفيظ الاستعانة بأخصائي نفسي لمحاولة جعل الطلاب يتأقلمون مع المعلمين من بعد شيخهم ومحبوبهم حمدي الطاهر.

اتصل “حمدي” بعد ذلك بعالم الكمبيوتر عملاً وتجارة، وسرعان ما فتح الله عليه أبواباً من الرزق، فانتقل إلى منطقة قريبة من مسقط رأسه، وشارك في تشييد مسجد بمنطقة زهراء العشرين.

وكان “حمدي” إماماً للمصلين يُقدمه الناس عن رغبة وحب أينما حل، في تواضع منه وابتسام زادا من تعلق الناس به وتبجيلهم له.

وحين جلد فيروس كورونا أديم الأرض بسياطه، وجاز للناس شرعاً الصلاة في البيوت والرحال، لم يستطع “حمدي” مقاومة النداء بالمكتوبات، فكان يخفّ لكل أذان، وينشط لكل صلاة في المساجد يؤمها ويقصدها يلتمس فتح أبوابها المغلَّقة، لاسيما بعد مقدم شهر رمضان الكريم.

اعتزم “حمدي” أن يجعل شهر رمضان مع الحظر أكثر طاعة، وأنشط عبادة، وأعلى همّة، فشمر عن ساعده، وكشف عن ساقه، فأحيا ليله، وأيقظ أهله، وأورى حفظه، وضاعف ذِكْره، أطفأ من المسجد المصابيح، وأشعل في القلوب الأنوار والتسابيح، وصلى بالناس الساعات الطوال قياماً وتهجداً.

أحس المصلون بأن “حمدي” يعاجل شهر رمضان ويسابقه، فقد كان من دائب عمله أن يختم القرآن الكريم في ليلة السابع والعشرين أو التاسع والعشرين، إلا أنه اختتمه هذا العام في ليلة الثاني والعشرين.

وبعد ليلة أو ليلتين من الختام، بدا على “حمدي” شيء من الوهن، وعلامات من الإرهاق والتعب، فكان حين يُسأل عن ذلك يقول..

محمد صالح: سلامتك يا شيخ حمدي.. لا بأس طهور إن شاء الله.

حمدي: الحمد لله، يبدو أن التكييف قد أصابني ببرد.

وبعد يوم أو يومين..

محمد صالح: لا.. لستُ معك.. لقد استمر سعالُك وتراجعت نبراتُك.. لا بد من كشف وعلاج وراحة.

حمدي: إن شاء الله تنتهي الأيام الكريمة والليالي الغوالي، ثم أتوجه إلى المشفى أو الطبيب.

محمد صالح: لا يا شيخ حمدي، الآن أشعر بأن هناك كارثة تستتر خلف صوتك المتقطع الواهن وتنفسك المتلاحق اللاهث.

حمدي: لا تقلق عليّ، أنا أُعاني من مشكلة صدرية مزمنة زادتها موجة الحر الماضية مع المراوح والتكييف.

وفجأة يختفي “حمدي” عن الأنظار، لينقله ذووه إلى مستشفى بولاق الدكرور العام، حيث تتداعى صحته، وتستفحل علته، ثم يتدخل الأحباب والأصدقاء بنداء عاجل على “الفيسبوك” يناشدون فيه المسؤولين وأهل الخير وجود سرير في محجر صحي أو بعناية مركزة.

وبعد ساعات تنقل الإسعاف “حمدي” إلى مستشفى الحوامدية العام، فيدخل في العناية الفائقة، وتمنع عنه الزيارة والاتصالات، وبعد أن استقرت الحالة مع عدم التدهور، طلب “حمدي” مكالمة ذويه..

حمدي: الحمد لله أنا بخير، لكني أريد أن أفضي لكم بشيء.

ذووه: لا ترهق نفسك، وأرجئ الكلام بعد خروجك بالسلامة.

حمدي: كنتُ أَصِلُ أناساً مما أفاء الله عليَّ من فضلٍ ونِعَم فلا تحرموهم إذا قصدوكم.

ذووه: فُديتَ من كل مكروه وسوء.. أنت لا تزال بخير.

حمدي: من حفظ منكم القرآن الكريم فلا يغفل عن مراجعته، ومن لم يتم حفظه فلينشط لختمه، ومن فاته الحفظ، فلا يفوته الاستماع والتلاوة والعمل.

ذووه: سلامتك يا شيخنا وحبيينا!!

بعد هذه المكالمة المقتضبة يدخل “حمدي” في غيبوبة وتقل نسبة الأكسجين في جسمه، ومع أذان الفجر ترتسم على شفتيه ابتسامة متألقة تصف السرور والحبور، وتنحدر من جبينه حبات عرق مُطيَّبة مترقرقة، ويكسو وجهه وجبهته ضوء ونور، فيسلم “حمدي” الروح والنفْس أربعينياً أباً لثلاثة أبناء، وعلى مثل “حمدي” فليبكِ الباكون ولينتحب الناحبون!

تأتي سيارة التكريم بالجثمان من الحوامدية إلى ساحة فيحاء بمنطقة العشرين، ليصلي جمع غفير على “حمدي” ربا على الخمسمائة، ويصحب الجثمان إلى اللحد والقبر ثُلة من الأقارب والمقربين، وقليل من الأصدقاء والمحبين.

وفي مشهد خاشع مهيب، وعقب مراسم التشييع والدفن، كان المشيعون يتلون هامسين دامعين قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27: 30].

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى