القصة والأدب

عمر   قصة قصيرة ..

عمر   قصة قصيرة ..

بقلم:عاطف محمد

 

لم يكن “عمر ” بالطفل العادي فقد كان رغم ضئالة جسمه، يتمتع بوسامة الوجه وخفة الظل وسماحة النفس والذكاء المتقد والحكمة فى القول والفعل رغم صغر سنه، فقد قابل وفاة والده بواقعية شديدة رغم جزع أمه فاطمة وتعامل مع الموقف بعزيمة الأبطال فقد كان والده مصابا بداء “السكرى” ووفته المنية بعد أن طرده المعلم جابر المرجوشي من دكانه الصغير الذى كان يستأجره فى بيته القديم وكان يعمل بها فى تصليح الأحذية وأرد المرجوشى أن يهدم العقار القديم ويقيم عمارة كبيرة تزيد من ثراءه فوق الثراء ثراء، وتم ماكان ولم يحفل المرجوشي بما قد يحدث للغير ومن يدوسهم بقدم الطمع فى طريقه ، حتى أنه وفاة “عباس الجزماتي” والد عمر لم تحرك من مشاعر المرجوشى قيد أنملة فبات جاف المشاعر لايهمه سوى نفسه، فقد كانت وفات “عباس الجزماتي مصيبة تركت لأسرته هما كبيرا، لقد ضاع المحل مصدر الرزق وضاع الأب مصدر الأمان و الدخل وباتت الأسرة فى مهب ريح الزمن يعصف بها كما يشاء ، ولكن الأم فاطمة لم يكن فى حسبانها أنها لن تقهر أو يضيع أولادها عمر والبنات الثلاث، فقد ارتدى عمر ثوب بطل الأحداث خرج من أرض عزيمة الرجال يحمل سيف الأبطال ليشهره فى وجه من يحاول أن ينال من أمه وأخواته البنات ، وأخبر أمه أنه لن يفيد الحزن والبكاء لابد من مواجهة الموقف وعدم البكاء على ما ضاع ، لنبدأ من جديد لقد اعددت صندوق تلميع الأحذية وسوف (اسرح به) فى كل مكان لكسب قوت يومنا “أنا من سيعمل” حاولت الأم أن تثنيه عن هذا فهو مازال صغيرا كما أنه متفوق فى الدراسة ، وإذا كان لابد من عمل أحد أفراد الأسرة فسوف تخرج هى للعمل حتى لو تطلب الأمر أن تعمل فى تنظيف البيوت بالأجر، ولكن كلمات عمر الحاسمة والحانية والمسئولة التى تواسي النفس وتدعهما (هو ينفع الملكة فاطمة تخرج للشغل وابنها سندها موجود وكمان مين هيراعى اخواتي البنات غيرك، اللى خلقنا مش هاينسانا ياأم عمر وإن كان على الدراسة هاروح المدرسة يومين فى الأسبوع واشتغل الباقى وربنا يكرم المهم ماتخرجيش وحد يهينك ) لم تجد فاطمة سبيلا أمام قوة بيان عمر ورجولته رغم سنه الصغير ، باتت لا تنسى جملته ” علشان نسعد فى دنيتنا لازم يكون عندنا ضمير طاهر ونفس هاديه سمحة ونشتغل ونكسب لقمتنا بعرق الجبين وبشرف ، ماتخافيش ياأمه ربنا اسمه الحق تفتكري عباد الحق هايضيعوا ”

وخرج عمر إلى الدنيا الواسعة التي لاترحم أحدا ، وبدأ في العمل ووجد مواجهة شرسة من أصحاب “الكار ” بإيعاز من المعلم جابر المرجوشي الذي صار كعفريت العلبة يظهر وقتما يشاء لكن عمر اكتسب ثقة الجميع بحسن كلامه وابتسامته الواسعة وخفة ظله ، حتى أن جميع سكان الحى أثناء مسح أحذيتهم كانوا يسرون له بمشاكلهم الخاصة والغريب فى الأمر أنه كان يرشدهم للحل الأمثل فيتعجبون كيف هذا؟؟؟؟!!!

ولكن المرجوشي الذى اخذت منه السادية مرتعا فى نفسه كان يستدعي عمر لمسح حذائه يوميا ليسمعه كلاما يحبط من عزيمته وينال منه ويثنيه عن العمل حتى يتحقق له مايريد ، ولكن عمر كان يفهم مغزى كلام المرجوشي الذي يطمع فى أمه “فاطمه ” حيث أنها شديدة الجمال ويريد أن يضمها بشكل أو آخر إلى حريمه ولكن حكمة عمر وحديثه الذكى جعلاه يرد المرجوشى خائبا لدرجة أنه كان يعود لمنزله محبطا يعلق فى نفسه أثر كلام عمر فيحتقن غيظا إذا أنه برغم ما يملكه من جبروب لا يقدر على طفل صغير ، فاوعز ل… “سيد الطويش” وهو أحد المخبرين لمضايقته وتقليل فرص عمله وسحب الصندوق منه فكان يسير” بفرشاة تلميع وعلبة ورنيش” ويعمل متحديا ذلك الرجل، حتى أنه بذكاء كلامه وضعفه أثار حفيظة أهل الحى على سيد الطويش ووقفوا ضده مساندين عمر واعادوا له صندوقه وتعهدوا بمساندته ، وفشلت محاولات المرجوشي فى هذا الاتجاه الذى قام بمحاولة مباشرة أخرى، فقد ذهب إلى أم عمر ليطلبها للزواج “على سنة الله ورسوله” ، وعندما علم عمر لم يذهب إلى منزله بل ذهب إلى زوجات المرجوشي واخبرهن بذلك فما كان منهن أن ذهبن( لقلب عاليها واطيها على المرجوشي) وكانت فضيحة تحاكى بها الحي لشهور عدة ، واستمرت المحاولات المرجوشية

إذا أمر احد رجاله بإشعال النار فى بيت فاطمة وأبنائها انتقاما لم حدث له، ولكن قدر الله وفق حسن ذكاء عمر لأخرج أمه وأخواته من المنزل الذى يحترق وانقذهم من الموت المحقق، وسارع أهل الحي باخماد النار وقيد الحادث ضد مجهول ، ولم يكتفي المرجوشي بذلك فعمر يكبر وقوته تزيد فسلط “مجهول” أن يصدمه بسيارة مسرعة ليزيح عمر من أمامه وبالفعل أثناء عودة عمر ليلا صدمته سيارة مسرعة وولت الفرار ونقل على إثرها للمستشفى “بين الحياة والموت” ولكن الله أنقذه رأفة بأمه وإخوته ولكن نتج عن الحادث عاهة مستديمة فى قدمه تسببت فى أن يسير” زاكا ” عليها وقيد الحادث أيضا ضد مجهول رغم علمه بالمجهول ، ولكن لم يفت ذلك من عضده و استمرت صلادة عمر فى الدفاع عن اسىرته والعمل الجاد والدراسة المستمرة ، ومرت السنون تلاحقها السنون تحمل كيد من المرجوشى وتسامح من عمر ، حتى حدث ما لم يتوقعه المرجوشى لقد تخرج عمر وصار طبيبا فلم يكن أحد من الحى يعلم أنه يدرس فى كلية الطب وجاء التعيين فى المستشفى العام وفى المساء يعمل فى مستوصف الحى وقتها عرف الجميع ذلك ، ولأنه منذ صغره كان شديد الذكاء حسن اللسان وصاحب خفة ظل ونفس سمحة، أقبل عليه الجميع،وتدور الأيام وتفعل فى المرجوشي ماتشاء فمرض بداء السكرى وإصابته نوباته بشدة، وعندما جاء رجال المرجوشى به فى حالة لايرثى لها إلى المستشفى كانت الصدمة أنه سوف يتلقى العلاج على يد الدكتور عمر الذى أذاه طوال عمره بالكثير والكثير ولكن لم يجد هذا فى صدر عمر أى غل أو محاولة للانتقام، بل عامله باحسن مايكون وتحدث معه بأفضل الكلم ، تناسى مافعله طوال سنين عمره فقد تلاشت تلك الاساءات وانقشع غبارها أمام القسم الذى اقسمه لتخفيف آلام الناس والحفاظ على أرواحهم قدر الإمكان ، فلم يسىء إلى المرجوشي فى شىء بل واحسن تقديم الخدمة الطبية له واوصى الممرضات عليه … مما أدى لتعجب المرجوشي….

فقال متسائلا

أنت ليه كده ؟؟؟

ليه ايه يا معلم مرجوشي؟؟؟

واحد غيرك كان رفض يعالجني، أو حتى إداني حقنة هوا موتتني بعد اللي عملته فيه.

وأروح من ربنا فين ، اعمل ايه فى ضميري .

ضميرك؟

أيوه ضميري ،الضمير الهادي هو الطريق للإنسان الهادي،هو اللي بيشيل الغل من نفسه.

( نظر له المرجوشى مستغربا وأكمل عمر) الحياة زى السوق الكبير ، لف فيها وخد اللي يعجبك من المعروض فيها ،بس افتكر إن الحساب هايجى وها تدفع تمن كل حاجه خدتها !!!

مافيش فرق بين خيانة الضمير وخيانة الواقع إلا التنفيذ

وأنا عايز اعيش وأنا ضميري مستريح ألف سلامة يامعلم ،

وعاد المرجوشي لبيته شديد الحسرة لنجاح عمر رغم سوء حالته المعيشية وعاهته التى لازمته ونقاء نفسه وتسامحها الشديد والتى أظهرت حقارة المرجوشي أمام نفسه وفشل أبنائه الثلاثة رغم رغد العيش، وتحول كلام عمر له بالمستشفى إلى سكاكين تنهش فيه وتزيد من عمق آلامه وتضربه ضربات لا رحمة فيها ، كيف يفعل فيه مافعل ويكون هذا هو رد فعله!!!!!

فقرر قرارا استدعى على أثره محاميه الخاص وطلب منه أن ينقل كل أملاكه لعمر على سبيل أنه “باع له كل شىء” ويكتفي لأبنائه بما لديهم من أملاك خاصة أن لديهم الكثير والكثير فهذا أقل رد لما فعله فيه وفى أسرته رغم أن المال لن يعيد مافقد من أشياء غالية ولكنها فرصة للتطهر من الذنوب ، وبعد التوقيع على العقود خرج إلى مقهى الحي الرئيسى وطلب من رجاله استدعاء الدكتور عمر على الفور واستدعاء أسرته وكل أهل الحي، وبعد اجتماع الجميع قدم المرجوشي للدكتور عمر اعتذارا أمام الجميع ، واعترف بما دبره له ولأسرته طوال السنين الماضية وأعلن للجميع أنه باع لعمر كل ما يملك وقال :

أنا جامعكم هنا النهارده عشان أنا محقوق للدكتور عمر ،اللى سقيته هو وعيلته الشر وسقاني هو الخير ( عرفت من ابني الكبير أنه انقذه من الموت لما طلعه من النيل وهو بيغرق علشان كان سكران ما قابلش الشر إلا بالاحسان ماجاش طلب تمن عمله ولا حتى قال عليه ، وأنه سامح فى حقه لما ضربه ابنى الصغير بعربيته وكان هايموت وساب له عجز فى رجله وكان قادر يبلغ لأنه شاف نمرة العربية وقاله لابنى كده، أنا شفتك بس قولت بلاش اضيع مستقبلك ، ابني ساعتها استغرب و فسر ده على أنه خوف أو ضعف ما يعرفش أن القوي هو اللي بيسامح مع المقدرة لأنه بيتغلب على نفسه الأمارة بالسوء ، ياريت عمر يسامحني هو وعيلته ، العمر فات (زفر زفرة ساخنة قائلا) ربنا يمهل ولا يهمل السكر بهدلنى وابنى الوسطانى المخدرات لحست عقله وام العيال ماتت محروقه فى أول يوم ليها فى الشقة فى العمارة الجديدة وعيالي المصائب نازله عليهم من كل حته ماكنتش عارف إن ربنا بينقم ليهم منى ومن ولادي ، الموت بيدق الباب والموت مابستناش أننا نتعدل ونسقيم لازم نتعدل ونسقيم ونستنى الموت ساعتها مش هانخاف من الموت ، كنت باسمع ” حسبي الله ﻭﻧﻌﻢ ﺍﻟﻮﻛﻴﻞ ” كتير عليا من أم عمر ماكنش واخد بالى أن دعاها ….ﻧﻘﻞ ﻣﻠﻒ ﺍﻟﻘﻀﻴﺔ ﻣﻦ ﺍﻷﺭﺽ للسماء !!!

قال هذا ………..وسقط مفارقا الحياة.

 

كل إنسان يحمل فى داخله محكمة عدلها نافذ واحكامها يقظة واسم هذه المحكمة…. “الضمير” ..

صاحب النفس السمحة يعيش ويخلد ذكره ويتكفل الله عز وجل بإعادة الحق له مهما كان من يظلمه ……

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى