مقال

لا شئ يعجبني ….

لا شئ يعجبني ….

بقلم / عبدالله إيهاب

في ظلمةٍ حالكة، وهدوءٍ صفي، وعزلةٍ مخيفة، تمس نسمات الهواء البارد جبهتي المتعرقة، ويجلو بعضُ الظُلمةِ -على استحياءٍ- وميضُ نُجيماتٍ قلائلَ…

جلست.

هُنا حيثُ يعيدُ اكتشافَ المرءُ ذاته، حيث يتهادى شبحٌ يخرج من بين جنباته إما ظلمته تقضي على ما بقي من ضياء يمثل أمامه لمسائلةٍ عَسِرة، حتى تضع أوزارها..

أو ينبثقُ نورٌ ملائكي لم تدنسه الحياة يومًا!

هكذا كانت قناعاتي على مَر سنيني، ومُرها..

إما سوادٌ محض، وإما بياضٌ خالص.

فجأة وبدون سابق إنذار تحولت من *نور* الطفل المدلل، الفتى الذي يجد في والده البياض الخالص، والرجل الصالح، والرأي السديد، إلى شابٍ قد تسلم راية حياته ليكملها وحده يختار هو وحده، ليحدد مستقبله ووتيرة حياته على أي نهجٍ ستمضي، والأيام تمضي، وأبي كذلك مضى..

كنت أتوق لأكون ذاك الشاب، تذمر الكبار حين كنت صغيرًا كان يجعلهم في نظري مثيرين للشفقة، الخير أبيضٌ واضحٌ، والشر أسودٌ له أنياب، فلِمَ الحيرة؟! وعلامَ كل هذا التضجر؟!

وحينما أصبحت الشاب الذي كنت أتوق لأكونه، أصبح أبي خبرًا لجملة أولها دومًا كان..

وحينما أصبحت هذا الشاب الذي كنت أتوق لأكونه لم أجد البياض هنا مهما بحثت، ولم أجد السواد هنا مهما فتشت

كل ما وجدت يا أبي كان رماديًا..

لذلك لا شيء يعجبني..”

ولما خططت أخر كلماتي تلك، سقطت معها أخر عبراتي، لا أعلم أَسقطت شوقًا، حيرةً، أم شفقة، سمعت صوتًا ينبعث من سطح المنزل المجاور يردد

“وأنا أيضًا لا شيء يعجبني”

باغتني الصوت، وانتفضت من المصادفة، تنفست الصعداء حين ميّزت أنه صوت “درويش” يلقي قصيدته، وخمّنت أنها *ندى* التي تستمع، لن يصعد أحدٌ في هذا البرد ليتابع وهجَ النجوم مع موسيقى القصائدِ سواها..

رفعتُ نظري للسور وجدتها تنظر إليّ وقد اعتلى وجهها علاماتُ الحزن على هذا البعيد الذي يجلس القرفصاء منكبًا على دفتره، قد وارت دموعه الكلمات، فذاب الحبر حزنًا كقلبه..

التقت عينانا وكان الندى في عيني، والنور في عينيها.

قمت على مهلٍ وأنا أجفف عبراتي، معتمدًا على الظلمة التي تواري ضعفي، وفي ذهني يتردد:

“كلنا يظن أنه محط النظر حتى في هذه الظلمة وصفتها أنها تراك وتشعر بما تشعر، بأنها ترى دموعك ودفترك، وجلستك الحزينة، ترى ما ظنت هي أنك رأيت حين نظرت إليها؟

وفي الواقع أنت لم ترَ شيئًا سوى ظلمةٍ وعينين تضيئان بشغفٍ أو فضول!

وفي الواقع هي لم ترَ ما وددت أنت لو تراه..

لأن كل منا هو محور عالم نفسه، وأفكاره يا نور، هي لم ترَ شيئًا، فتخفف!”

وصلت إلى السور عند تلك النقطة وألقيت السلام، فردته ندى بحياءٍ نَدِي..

بدأتُ الحديث وكأنها بظهورها أنقذتني من معركة مع ذاتي، ما كررتها إلا وصرت أكثر حنقًا على نفسي وعلى العالم..

بدأت حديثًا أعظم ما فيه أنه أنقذني من نفسي، وانتشلني من بين براثن أفكاري..

وقد تقتل المرءُ أفكارَه..

فقلتُ: كيف حالك يا ندى، وحال أبي وأمي؟

وكنا قد أعتدنا مذ كنا صغارًا أن أنادي عمي بأبي، وزوجته بأُمي، وكذلك ندى..

فقالتْ في رضًا ووجهٍ باسم: في نعمةٍ من الله وفضلٍ، “يا هندسة”..

أضاءتْ الأنوار ولم أعلم لمَ؟ ألا يكفيها أنها تتحدث لنور!

بادرتني: أعلم ما يدور في خلدك، وما زلت أنت كما أنت يا نور، تحمل في طياتك كل النقائض الأشباه، نرجسي، لكنك لا تنفك عن جلد ذاتك، لا يعجبك أحد، ولا حتى تعجبك نفسك، وفي الوقت ذاته تشعر من حولك بردودك وفِعالك عكس ذلك كله و..

قاطعتها: وماذا دار في خلدي إذًا؟!

ابتسمتْ في ثقةٍ لا أعلم من أين لها بها وحقيقةً استفزتني..

فقالت:” لِمَ أَضيء الأنوار وأنا أتحدث لنور”!

ابتسمتُ ونظرتُ إلى السماء أذكر أيامًا قضيناها سويًا، حيث نور المنطقي جدًا، يطبق على واقعه قوانين الرياضيات والهندسة، لا يقبل الخطأ ولا يتهاون فيه، حتى وإن كان ذلك في مجرد لعبة، وندى التي تتكيف مع أي شيء ولا تبدي انزاعاج لإخفاق خططها، أو خطئها، وكذلك خطأ من حولها..

أنا دومًا أحب أن تكون المعادلة 1+1=2، ولا تهاون في ذلك، وهي دومًا ترى أن الواقع ليس محلًا لتطبيق النظريات العلمية بحذافيرها، هناك مساحةٌ للخطأ هنا، وتلك المساحة هي التي تضيف لنا أشياءً فتجعل كلًا منا مميزًا بطريقة تعامله مع مجريات الأمور لتصبح نفس المعادلة، لها إجاباتٌ تُعَد بعدد من عُرضت عليهم هذه القضية ليحلوها..

هناك مساحةٌ لمشاعر البشر، لقصورهم، لضعفهم، وأحيانًا لقلة حيلتهم، يجب أن يمارسوها..

كانت ندى كما يقول والدي عنها “تُلبسُ مشاعرها رداءَ المنطق”، وكنت أنا كما يقول والدها “لا أرتدي سوى حُلةَ المنطق”

وأنا لم أرها وأمثالها سوى حالمين..

كسرتْ ندى حاجز الصمت وهي لا زالت تنظر إلى السماء قائلة: أعلم أننا إخوة، وأنني لم أصن عهد أخوتنا، وصداقتنا الذي صناه سويًا مع مرور السنين ومرارتها..

لكني كلما تقدمنا في السنين وجدت حاجزًا من الحياء يُبنى بيني وبينك، لم أجرؤ على عبوره، وانتظرت خطاك أنت كما قطعتها الليلة، لأعود فأصونه من جديد..

قُل لي بربك يا نور، ما فعلت السنون بكَ؟

فقُلت: هل لي أن أتيكم الآن؟

فأومأتْ إيجابًا..

ولما وصلت كان درويش يردد

“لا شيء يعجبني..

أريد أن أبكي”

جلست على ركبتاي ألهث لا أدري هل ما أرهقني حقًا السُلَّم..أم فراري من نفسي التي بين جنباتي؟

“وأنا أيضًا أريد أن أبكى” رددت بلا وعي

فزعت ندى، وجلست إلى جواري، لأول مرة أتلفظ بلَفظٍ -أمام أحد غير الوحش الذي بداخلي- يحمل شيئًا من المشاعر، احتفظتُ لخمسٍ وعشرين سنة بذاك المظهر الرجولي الصلب الصامت، لايبكي، لا يظهر عليه حزن، ضحكاته كذا محسوبة..

لذلك فزعتْ إليّ، جلست بجانبي تربتُ على يدي قائلةً: ولِمَ لا؟

فردد درويش:

“انتظر الوصول إلى المحطة

وابكِ وحدك ما استطعت!”

رفعت نظري إليها ولازال في عينيها النور، وفي عيني ندًى أنازعُ سقوطه..

قالتْ: لا أعلم يا نور لِمَ لا تقبل كونك إنسانًا!

نظرتُ مستفهمًا وكيف لا يتقبل المرءُ كونه إنسانًا..

في يومٍ يسبق لحظتي هذه بسنين، يومٍ لا أذكر له اسمًا، ولا عامًا..

لا أذكر إلا أنه حوى حديثًا وضع نقطةً لعلامات استفهامٍ دمرت فيّ الكثير، محل الحديث المسجد، ومحاوري كان شيخي..

جلست منزويًا لسان حالي “كيف أرى هذا الفتى يضايق الفتيات ثم بأي وجهٍ يأتي ليصلي أمام ربه ويجلس لدرس علم، كيف لهذا الشيخ الكبير أن يغتاب ثم يأتي هكذا ليصلي ولا يخجل من أن يدخل المسجد مع هذا الفعل المشين، كيف لهذا الشيخ الذي يخطب ويعلّمنا أن ينفلت لسانه أحيانًا بكلامٍ بذئ..

كيف لهم أن يكونوا هكذا بوجهين، أحليهما نفاق، على المرء أن يختار طريقه إما أبيضًا أو أسودًا، ويتحمل بعدُ تبِعاته، ولذاته..

كنت حانقًا جدًا يجب أن تكون مثاليًا كي تدخل هنا، كانت أقل هفوة من شيخي في التعامل هنا من غضبٍ، أو انفعال، تجعلني أجلس أسابيعًا لا أذهب للمسجد أرى أنه لا فائدة، زمن التغيير ولى وانقضى من بعد علي وعمرَ وعثمانَ وأبي بكر، نحن فقط ننتظر أن نلقى حتفنا..

كان كلام شيخي قرأنًا، أنا حين أثق بأحد أسلمه جميع مفاتيحي، فيصبح مرجعي الأول والأخير، لذلك هفواته كانت تجعلني أنتكس، بل ما يزيد الطين بِلة أني كنت أرى في ذاك الذي ابتعد بالكلية متصالحًا مع نفسه يبدي ما يخفي، أما هؤلاء فيتقمصون دور الملائكة المصلحين، وها هم يخطئون..!”

فرغ المسجد إلا مني والشيخ ، فتقدمتُ إليه وبادرت بالسلام فمدّ إليّ يديه بابتسامةٍ قائلًا: هاتيني يدك يا فتى، دع ذنوبنا تتساقط.

فنظرت باستهزاء وابتسمت في تهكم، أنا لا أصدقكم!

جلسنا وباغتُه سائلًا: لِمَ أنتم مزيفون؟!

ابتسم الشيخ في حِلمٍ أغاظني قائلًا بهوادة: وما الذي دعاك أن تلحق بنا حكم الزيف؟ ومن نحن أصلًا؟ أنت تحدثني أنا فقط!

كظمت غيظي ثم قُلت: أنتم المتحدثون باسم الدين، أنتم الملتزمون!

أتعلم يا شيخ أنا أحترم أولئك الذين يفعلون المعاصي ثم يقولون نعم نحن نفعل، وكيف نأخذ إليه خطوة وبنا كل هذا الدرن، لكنه حليم وسيغفر لنا لأننا نقر بأننا أخطأنا ومتصالحون مع نفوسنا، رغم بغضي لأن يختار الإنسان لنفسه الهلكة والضلال، ما من عاقلٍ يعلم الأبيض ثم يذهب بقدميه إلى الأسود، لكنهم على كل حالٍ ليسوا مزيفين، ولا ما تخفي صدورهم أعظم مثلكم!

ابتسم الشيخ وكأنه قد خاض مثل هذا الحديث مراتٍ عديدة ورتّل: “والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ولم يصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون”

فرّق قلبي لتلاوته، كان له صوتٌ يبلغ من القلوب مبلغًا يبكيها..

فاستأنف: سأحادثك قليلًا يا ولدي لسنا كشيخٍ لتلميذه، ولكن كإنسانٍ مسلم لأخيه الإنسان المسلم، فلا تقاطعني، واسمع مقالة مسكينٍ يرجو السلامة..

يا ولدي علينا أولًا أن نتعلم كيف نقيس الأمور بقياساتها الصحيحة لنضعها في نصابها، فالمرء يجب أن يعلم ما هو مقياس التفاضل أولًا وعلى أساسه يضع الناس ونفسه أولًا كلًا في نصابه ومنزلته..

إليك حقيقةً صادمة: ليس من حق أحد أن يفاضل بين الناس في دينهم، ولكن الحق الذي يكفله الإسلام لحملة لواء التبليغ ما هو إلا التبليغ والإصلاح ما استطاعوا، فلا يحق لهم أن يصنفوا هذا على أنه تقيّ ورع، وهذا منافقٌ مراءٍ من سويعات يقضونها معه، أو من مراتٍ قليلة خالطوه فيها، منتظرين منه الحفاوة والبسمة دائمًا -متجاهلين كونه إنسانًا له مشاعر ويمّر بتجارب تأثر فيها،- والكلام المنمق الفصيح لأنه محافظٌ على صلاته في المسجد، ويحث أصحابه عليها، فيأخذ عنوةً لقب الشيخ، يُستفتى فيمتنع، فيُقال جاهلٌ يرائي بصلاته في المسجد وهو لا يعلم حكم كذا وكذا، أو لازال معنا يفعل كذا وكذا، متناسيين أنه مثله كمثلهم تمامًا إنسان، يغالب هواه في حربٍ سجال، لا هو شيخ، ولا يحمل لواءً سوى أنه يلهث خلف معروف -علّه- يصادف منه صدقًا فينجيه!

أولًا يا ولدي فمقياس التفاضل هو التقوى، والتقوى مِحلها القلب، لذلك لا يعلمها إلا الله، ولذلك فإن من فضلنا بعضنا على بعضٍ درجات وصنفنا وفرزنا في كتابه هو الله، ثم تلا: “هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنةٌ في بطون أمهاتكم فلا تُزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى”، ورتّل: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”

فوضّح وبين، أوجز وأبان، وبَلّغ فبلغ القلوب، ليعرف كل منا نفسه فينشغلَ بها ويفرزَها، يصنفَها، ثم ينكبَ عليها إصلاحًا وتهذيبًا، ثم يموتَ وهو على الطريق، فإن الهدى طريقٌ يُسار فيه ولا ينتهي فيه المسير مهما طالت بنا أيامُ دنيانا، أن تموت وأنت على الطريق كقاتل المائة فذاك هو الفلاح، وهؤلاء الذين ذكرت إن هم إلا على الطريق، أو يحاولون أن يكونوا عليه، يأتون من الدين ما استطاعوا، يسيئون ثم يأتون إلى الله ليغسل حوبتهم، فإننا ما بين صلاة وأخرى نحترق بذنوبنا حتى إذا أتينا هنا فصلينا، أُطفئت نار الذنوب..

لا تطالب أحدًا منهم بأن يكون ملاكًا يمشي على الأرض، ولا حتى شيخك..

إن شيخك بشر، قد آتاه الله بفضله وكرمه ومنته علمًا، فضرب في الأرض معلمًا الناس الخير، ليلقى السلام، متذكرًا مقالة ابن القيم:” أنفع الناس لك رجل مكنك من نفسه حتى تزرع فيه خيرا أو تصنع إليه معروفا فإنه نعم العون لك على منفعتك وكمالك فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر”

ينتفع بك أكثر مما تنتفع منه، فسؤالك يجعله يبحث أكثر، وحثه إياك يجعله على ما يحثك عليه أحرص، إنه كأن تحسب أنه نبراسك الذي ينير لك الدرب، بينما هو يقتبس من نورك.

شيخك ليس دينك، شيخك إنسانٌ مثلك، قد أوتي علمًا وبيانًا، فلا تطلب منه أن يكون ملاكًا يتنزل بالوحي، أو قرأنًا يمشي على الأرض..

وإليك: قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر وأبو عامر قالًا حدثنا زهير ، حدثنا سعد الطائي ، حدثنا أبو المدلة – مولى أم المؤمنين – سمع أبا هريرة ، قلنا : يا رسول الله، إذا رأيناك رقت قلوبنا، وكنا من أهل الآخرة، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشممنا النساء والأولاد، فقال لو أنكم تكونون على كل حال، على الحال التي أنتم عليها عندي، لصافحتكم الملائكة بأكفهم ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم”

أوتنكرُ على الناس ما لم ينكره عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم! يا بني نحن نأتي إلى الله مذنبين ليتوب علينا، -ولو مت أذنبنا لاستبدلنا أترى!- ضعفاء ليهب لنا العون، لن يصلحك أحدٌ سواه، فكيف إذا زللنا –وما أكثر ما نزل- أن نقطع صلتنا بمن سيصلحنا! بل كلما زاد ذنبك، وكثر زللك، زد من إقبالك على الله تنجُ، ولك في قول الشافعي نبراسًا إذ قال: “سيروا إلى الله عرجى ومكاسير، ولا تنتظروا الصحة، فإن انتظار الصحة بطالة”.

أويخلو أحدنا يا ولدي من الذنوب؟ فإن انتظار الصحة هو انتظار الخلو من الذنوب..

هؤلاء –وأنا- العرجي المكاسير، نسير إليه ولو زحفًا، ليداوينا، أتطلب من المريض بداء ما أن يترك جوار وتوجيهات طبيبه لينطلق فيفسد ما بقي له من سائر صحته؟

هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم متصالحين مع أنفسهم، لم يعرفوا البكاء على معاصٍ شهدها الناس بالنهار ولم يشهدوا دموع التوبة، وبرد القبول في القلوب بالليل، لم يعيشوا حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، هؤلاء هم منتظرو الصحة، وما يَعدهم الشيطانُ إلا غرورًا..

ونخلص من هذا إلى قول ابن القيم:” وأضر الناس عليك من مكن نفسه منك حتى تعصي الله فيه فإنه عون لك على مضرتك ونقصك”.

فهؤلاء ما فعلوا سوى أن جهروا بمعاصيهم ودعوا إليها الناس، لينضموا إلى فئةِ المتصالحين التي تظهر ما تخفي، وما علموا أن كل أمته صلى الله عليه وسلم معافى إلا المجاهرون..

وأخر ما أحب أن أذكرك به ونفسي في هذا المقال حديثه صلى الله عليه وسلم لحنظلة وأبي بكرٍ رضي الله عنهما:

عن أبي ربعي حنظلة بن الربيع الأسيدي الكاتب أحد كتاب رسول الله ﷺ قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة  قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله ما تقول؟! قلت: نكون عند رسول الله ﷺ يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله ﷺ عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا، قال أبو بكر : فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله ﷺ، فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله ﷺ: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي العين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا. فقال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، لكن يا حنظلة ساعة وساعة، لكن يا حنظلة ساعة وساعة، لكن يا حنظلة ساعة وساعة”

لكنها يا بني ساعة وساعة، فأتِ بما استطعت بكل ما استطعت من مجاهدة، ثم لا عليك وتلا:

“يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم”

فقمتُ ولم أنبس ببنت شفه، رد الشيخ كبريائي، وتشبثي، وأحكامي التي كانت ما أسهل رميها، لكن إجابته الشافيه وقعت على الجرح فعانيتُ مع الدواء المر سنين، أهرب تارات مما تأصل في ولا استطيع نزعه، وأواجه فتثخنني الجروح حتى..

حتى لفظت ندى تلك الكلمة ” يا نور لِمَ لم تقبل كونك إنسانًا” عاد الحديث كله إلى ذهني فبدأتُ أهذي بكلماته بكل عشوائية فقدت كلماتي هندامها، ولم تعد منمقة، لكنها كانت صادقة فبلغت ندى، حتى تساقط من عينيها ندًى دافيء شعرت به على يدي، وهي تنظر ولازال النور في عينيها والندى-هذه المرة- في عينينا، وهذة المرة لم أدافعه..

وهنا ردد درويش:

ولا أنا لا شيء يعجبني

هل أنا حقًا أنا؟”

قالتْ: يا نور اقبل كونك إنسانًا وكون حق كل من حولك في أن يكون إنسانًا بكل ما تقتضيه الكلمة من معاني..

“وخُلِقَ الإنسانُ ضعيفًا”

كونك إنسانًا يا نور يحتم عليك أن تضعف، وتحتاج لقوةٍ تسد بها هذا الضعف لا أن تبكيه، فتلجأ لله وهو القوي، وضعفك يورثك رحمةً، ويمنعك من تجبر، فلا تتنصل منه، واقبله ولا تبكيه..

“قالا إنّا نخاف”

والخوف فيك جبلةٌ، فاقبله وروضه كما يروض الفارس الماهر مهرته الفزعة ولا تهرب منه، بل بطولتك في المواجهة، لا في التنصل والإنكار، مظهرك صلب، وداخلك يرتعد!

“وخُلِق الإنسان عجولًا”

ستتعجل انتصارك على ذاتك، فتذكر جبلتها وبالصبر روضها، لا تجعل عجلك يهزمك، ويحول لحظات رحلتك إلى لحظات انتظارٍ مميتة، بل روض عجلتك، اسعى وأفلت من قلبك استعجال النتيجة، ومهما تأخرت فلا الطريق نهايتها هنا، ولا الجزاء هنا يُوفى!

هنا ردد درويش:

“ويقول جنديٌّ: أنا أيضًا

لا شيء يعجبني

أحاصر دائمًا شبحًا

يحاصرني!”

فنظرتُ لها وكأن درويش قرر أن يبوح نيابةً عن لساني الذي تاهت عنه الحروف، فلم يجاوز العدم..

ابتسمتْ وقد فهمتْ أخاها من نظرة وبادرتْ في نبرةٍ دافئة:

“وكَان الإنسان أكثر شيءٍ جدلًا”

عليك أن تعلم أن من ضريبة كونك إنسانًا أنك ستجد لانهيارك المبررات، ولرؤيتك العالم ضبابيًا الحجج، ولقناعتك بأن العالم إما بياضٌ وملائكةٌ تُحلِق، أو سوادٌ وأشباحٌ تروع مئات الأدلة، وأقول لك قول الدكتور أحمد خالد توفيق: “الأبيض لا وجود له، بل هو سبعة ألوان قد جاءت معًا، والأسود لا وجود له، بل هو سبعة ألون، قد غابت معًا”

إذا قررت أن ترى العالم إما أبيضًا أو أسودًا، لن ترى سوى الضباب، وستحرم نفسك من ألوانٍ عدة مبهجة، مؤلمة، ملهمة، سيئة..ستحرم نفسك من التمتع بالاختلاف، ومعرفة قيمة الجمال، حتى وإن طغى القبح..

حينها ستسأنس بهذا الجمال، ألمَك، ويأنس به قلمك!

على ذكر الأُنس فإن من ضروريات كونك إنسانًا وجودَ من تأنسُ به ويأنسُ بك، وأن تعلم ما يؤنسك، وإلا ما برحت بك الوحشة حتى أبرحت قلبك!

مادمت مصرًا على أن ترى العالم إما أبيضًا أو أسودًا، فكذا سترى نفسُك، إما ملاكًا لا يُخطأ ذهب ضحية مجتمعٍ فاسد، أو شبحًا مخيفًا تفر منه، وأنى يفرُّ المرء من نفسه!

إنك وحشٌ فيه نور، أو نوٌر أحيانًا يستوحش..

إنك كائن بجناحٍ أبيض ملائكي قد اجتمعت فيه كل الألوان، يظهر كل منها في فصله المناسب، ووفق موقف يقتضيه، وجناحٍ أخر أسود قد غابت عنه جميع الألوان مازلتَ تغالبه بين الحين والآخر، تريد أن تتزكى، وتترقى!

وهنا ردد درويش خاتمًا القصيدة

“أما أنا فأقول:

أنزلني هنا، أنا مثلهم

لا شيء يعجبني

ولكني تعبت من السفر”

قُلتُ: أنا متعب، متعبٌ وحزين..

قالتْ: على ذكر الحزن، قيل لمريم عليها السلام ” ولا تحزني” فلا بأس أن تحزن هذا من متقضيات إنسانيتك، ولكن ضع نُصب عينيك أن تعريفنا الواهي، والمطاط للسعادة هو ذاك الذي يؤرقنا يا نور، إنما السعادة ليست أن تسير أمور المرء دومًا بشكل مثالي، وأن يكون شعث قلبه دومًا مهندم، إنما السعادة في الرحلة، في السير إلى بغية تريدها، وعلى قدر نبل البغية، على قد صدق السعي، يلاقي الإنسان سعادته، في خطب أصابه فعلّمه، ونحت مبادئه، في خيرٍ أصاب منه، وإنجازٍ صنعه، في عثرة كانت نافذةً لقوة فيه كامنة، ولنقص مستتر، فشمر عن ساعد الجد مقوّمًا. إن تعريفك للسعادة هو الذي سيحدد لك كيف تخطو إليها، فانظر في نفسك، تعرف ما السعادة، واسع لها، وإنك لن تصل، لكن سيرك في طريق السعد سعد، وأنا أرى السعادة في الرضا!

أنت متعب لم تعد تقوى حِراكًا! حسنٌ. أحيانًا كل ما نحتاجه في مواجهة الوحش الذي بداخلنا أن نحتويه، فيُزَمل فيهدأ، وينصاع كما الطفل الصغير..

أحيانًا كل ما نحتاجه هو أن نحتضنه بدفء، فيذوب ويتلاشي وما يعود ها هنا..

أحيانًا يكون سلاحنا الفتّاك..عناقًا!

قُلتُ: الآن علمت معنى كلمة أبي “ندي تُلبس أفكارها المنطقية مشاعرها”، كلام شيخي كان نقطة لعلامات استفهامي، لكنها نقطة منطقية فقط، فاحتجت سنينًا لأطبقها وفشلتُ أكثر مما نجحت..

والآن جئتِ أنتِ لتضفي عليها لمسة طمأنينةٍ، وإيمانٍ وتفهُّم، فبدلًا من أن تجيبي والسلام..

جئت -لقلبي- إجابةً وسلام..!

همست ندى: ولا تنسى، أن كل الحقوق التي كُفلت لك كإنسان، مكفولة بنفس القدر لمن حولك، فلا تمنعهم إياها!

أوصيك ونفسي: بأن ننظر في ذواتنا، فنفهمها أو على الأقل نحاول، وأن ننصب عليها فنقيل عِثارها، ونحتضنها حال خطئها، ونتعلم كيف نواسيها، ونقبلها، فإن فعلنا، كنا على غيرها أقدر، ولنذكر أن الله تعالى حين قال ونفسٍ وما سواها، قرن الفلاح بتزكية المرء لذاته، والخسران بأن يدعها تخبث، لم يقرنه سبحانه بأن يزكي المرء الآخرين، أو ينشغل بإطلاق الأحكام عليهم، ووقتها وقتها فقط سيرفل المرء في سُبلِ الفلاح.

دع عنك هم وظلام المجتمع وكن أنت الأفضل السوي الذي تريده وترنو إليه، فتلك هي معركتك الأولى!

هبطنا، وقد صعدت بنا الكلماتُ إلى رحابٍ من تقبُّل ذواتنا، وتقبُّل من حولنا، يرقى بنا عن معاركَ وهميةٍ تستنزفنا، هبطنا، ولكن نفوسنا تُحلقُ في رحابِ قوله صلى الله عليه وسلم:”سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيءٌ من الدلجة، والقصدَ القصدَ، تُبلّغوا”

ومضينا بعدها في طريقٍ شائك، وأنست القلوب بقوله قوله صلى الله عليه وسلم: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز”!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى