مقال

سقط شعار الإسلام هو الحل..

سقط شعار الإسلام هو الحل..

كتب/ يوسف المقوسي

 

موضوع الثقافة شائك. لها تعريفات عديدة حتى لكأن الأمر مستحيل الفهم. يظهر الوضوح عندما ندمج الثقافة العلمية الحديثة، وهي ثقافة العصر، في أنفسنا، وعندما ندمج أنفسنا في الثقافة العالمية؛ إذ هما تعبيران عن حل لمعضلة واحدة: وجهان لعملة واحدة، كما يقول المثل السائد. بعد انفضاح شعار “الإسلام هو الحل”، أي في التراث الثقافي حل لكل مشاكل العالم المعاصر. يظهر منذ بعض العقود من السنين شعار أسلمة العلوم الحديثة الاجتماعية والمادية.

 

يعرف أصحاب هذا الشعار أن للعلم الحديث ثقافته، وأنها ثقافة العصر الكونية، وأن الأخذ بها يتطلّب التخلي عن العلوم الدينية، وغير الدينية التقليدية. هو خوف على الهوية يعبر عن اعتراف سابق بالهزيمة أمام العالم وثقافته، مما دفع أصحاب الشعار لوضع شعار أسلمة العلوم الحديثة مكان الانغلاق والقول “الإسلام هو الحل”. يريدون أن تكون العلوم التقليدية دليلاً للعمل والفكر ويخافون تجاوزها لتصير من الآثار الباقية التي تستحق الدرس والمحافظة عليها من أجل فهم التاريخ. وحتى التاريخ لا يمكن أن يكون إلا عالمياً. لا نستطيع فهم تاريخنا من داخله بل من خارجه؛ بالخروج منه ولو على مضض لتتكوّن، أو يعاد لدينا، تكوين ملكة نقد. كي يبقى التراث حياً يجب علينا أن نخضعه لعملية “جراحية” تنقذه من مرض التقليدية والمحافظة والتقوقع والإنعزالية. التراث هو ما يبنى عليه. وما يبنى عليه يجب أن يندمج بالمضاف الى البقاء وإلا حدثت شقوق وأصبح متفسخاً. وتلك حالة المجتمعات الإسلامية التي تعاني انفصاماً، حيث أن المجتمع، وكل فرد منا، يعاني مما فيه: شخصيتان متوازيتان لا تلتقيان. الحديث فينا لا يندمج مع الموروث. آلام الفصام كبيرة ومزرية. هي في أساس الهزيمة. هزيمة ثقافية أمام العالم وهزيمة أخرى أمام العدو القاعد الكامن في قلب الأمة الجغرافي؛ مجتمع مشلّع منكسر تسوده الحروب الأهلية. الداخل يقاتل الداخل؛ كما قال مظفر النواب: الواحد منا يحمل في الداخل ضده.

 

الدعوة الى أسلمة العلوم الحديثة دليل على خيانتنا لتاريخنا وخيانة للدين السائد. حين أسس أهل هذا الدين الجامعات، ومنها بيت الحكمة والأزهر والقيروان والزيتونة، لم يكن لديهم خجل من ترجمة “علوم الأوائل” واستيعابها. لم تكن الترجمة عملية تعريب أو أسلمة وحسب، بل عملية استيعاب في عالم اعتقد الأسلاف أنه جزأ منهم؛ وهو جزء منهم. “وتحسب أنك جرم صغير وفيك استوى العالم الأكبر”. كان هذا المجتمع واثقاً من نفسه، ليس فقط في عصر الفتوحات والامبراطورية المترامية الأطراف والمهيمنة، بل أيضاً في عهد التفسّخ السياسي. في هذا العهد بقي زخم الثقافة الإسلامية قوياً ومسيطراً على العالم وقادراً على استيعاب وهضم جميع ما يأتيه من روافد العالم الآخر ثقافيا. وكان كثير الإبداع متجدداً. كان مجتمع يرى أن العالم مجاله ولا يقتصر ذلك على مجاله الجغرافي. ترينا كتب الجغرافيا القديمة وكتب الرحلات كم كان هذا المجتمع شغوفاً بالعالم، متطلعاً الى الخارج لا متقوقعا حول نفسه كما هو الآن. أسلمة العلوم الإنسانية، الاجتماعية والمادية، عنوان هذا التقوقع. صغار العقول أصحاب أحلام العصافير هم الذين يعتقدون أن إنشاء هذه الحضارة كان ذاتي الدفع ولم يكن شأناً عالميا كونياً. نحن هامشيون في هذا العالم. كي نخرج من هامشيتنا، علينا الخروج الى العالم والإندماج فيه. نندمج في العالم عندما ندمجه فينا. نصبح جزءاً منه ويصبح جزءاً منا. نناقض أنفسنا عندما نرسل أولادنا للتعلّم في الخارج، ونزعم في الوقت عينه أنهم هناك لتعلّم تكنولوجيا الغرب لا لاستيعاب ثقافته، ثقافة العالم. نكذب على أنفسنا عندما نستورد تكنولوجيا الغرب وأدواته المادية وسياراته وتلفزيوناته وغيرها دون أن “تتلوّث” ثقافتنا. نحن نستورد مع هذه السلع وتقنياتها ثقافتها. لكن المكابرة غير المستندة الى أساس غير الضعف والدونية تجعلنا نرفض الاستيعاب، فنبقى على انفصام الذات. نعرف أن ثقافة الغرب ذات وجهين. لكننا لا نتورّع عن الهرولة نحو صنع السلاح النووي المنتشر في عدة بلدان من منطقتنا؛ وسوف ينتشر. كررنا فظائع القرن العشرين لدينا، عندما أخذنا منذ عقود من الغرب فاشيته ودمجناها في أحزاب قومية ودينية ، ما زالت المدافع الأول عن الاستبداد، بل ربما كان سببه أو السبب الوحيد لبقائه. إذا كان الاستبداد يلغينا، وقد ألغانا سياسياً، فإن أسلمة العلوم الحديثة تلغينا ثقافياً. هي دعوة للتهميش لا الى الاقتحام. اقتحام العالم ليكون لنا دور فيه، بل ليكون لنا دور أولي فيه. ومن التجربة الشخصية ممكن القول، بل يجب القول أننا أرسلنا الآلاف للتعلّم في الخارج، ورفضنا أن نرسل وراءهم أو معهم لجان من أصحاب العمامات لهدي الطلاب الى “الصراط المستقيم”. كانت الحجة الصريحة لدينا أمام أصحاب الفتوى أننا أرسلنا الطلاب الى الخارج ليتخلصوا من أفكارنا، أفكار الأمة المهزومة، ليكتسبوا أفكارا جديدة حديثة مغايرة لما لدينا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى