مقال

الخليفة العباسي هارون الرشيد “جزء 2”

الخليفة العباسي هارون الرشيد “جزء 2”

بقلم / محمـــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء الثاني مع الخليفة العباسي هارون الرشيد، وإنما كانت مليئة بجلائل الأعمال في داخل الدولة وخارجها، ولم يكن الرشيد بالمنصرف إلى اللهو واللعب المنشغل عن دولته العظيمة إلى المتع والملذات، وإنما كان يحج سنة ويغزو كذلك سنة، وقد واستهل الرشيد عهده بأن قلد يحيى بن خالد البرمكي، الوزارة، وكان من أكفأ الرجال وأمهرهم، وفوّض إليه أمور دولته، فنهض بأعباء الدولة، وضاعف من ماليتها، وبلغت أموال الخراج الذروة، وكان أعلى ما عرفته الدولة الإسلامية من خراج، وقد قدره بعض المؤرخين بنحو ربعمائة مليون درهم، وكان يدخل خزينة الدولة بعد أن تقضي جميع الأقاليم الإسلامية حاجتها، وكانت هذه الأموال تحصل بطريقة شرعية، لا ظلم فيها ولا اعتداء على الحقوق، بعد أن وضع القاضي أبو يوسف.

 

نظاما شاملا للخراج باعتباره واحدا من أهم موارد الدولة، يتفق مع مبادئ الشرع الحنيف، وذلك في كتابه الخراج، وكان الرشيد حين تولى الخلافة يرغب في تخفيف بعض الأعباء المالية عن الرعية، وإقامة العدل، ورد المظالم، فوضع له أبو يوسف هذا الكتاب استجابة لرغبته، وكان لهذا الفائض المالي أثره في انتعاش الحياة الاقتصادية، وزيادة العمران، وازدهار العلوم، والفنون، وتمتع الناس بالرخاء والرفاهية، وأُنفقت هذه الأموال في النهوض بالدولة، وتنافس كبار رجال الدولة في إقامة المشروعات كحفر الترع و الأنهار، وبناء الحياض، وتشييد المساجد، وإقامة القصور، وتعبيد الطرق، وكان لبغداد نصيب وافر من العناية والاهتمام من قبل الخليفة الرشيد وكبار رجال دولته، حتى بلغت في عهده قمة مجدها وتألقها، فاتسع عمرانها.

 

وزاد عدد سكانها حتى بلغ نحو مليون نسمة، وبُنيت فيها القصور الفخمة، والأبنية الرائعة التي امتدت على جانبي دجلة، وأصبحت بغداد من اتساعها كأنها مدن متلاصقة، وصارت أكبر مركز للتجارة في الشرق، حيث كانت تأتيها البضائع من كل مكان، وغدت بغداد قبلة طلاب العلم من جميع البلاد، يرحلون إليها حيث كبار الفقهاء والمحدثين والقراء واللغويين، وكانت المساجد الجامعة تحتضن دروسهم وحلقاتهم العلمية التي كان كثير منها أشبه بالمدارس العليا، من حيث غزارة العلم، ودقة التخصص، وحرية الرأس والمناقشة، وثراء الجدل والحوار، وكما جذبت المدينة الأطباء والمهندسين وسائر الصناع، وكان الرشيد وكبار رجال دولته يقفون وراء هذه النهضة، ويصلون أهل العلم والدين بالصلات الواسعة.

 

ويبذلون لهم الأموال تشجيعا لهم، وكان الرشيد نفسه يميل إلى أهل الأدب والفقه والعلم، ويتواضع لهم حتى إنه كان يصب الماء في مجالسه على أيديهم بعد الأكل، وأنشأ الرشيد بيت الحكمة وزودها بأعداد كبيرة من الكتب والمؤلفات من مختلف بقاع الأرض كالهند وفارس والأناضول واليونان، وكما كان هارون الرشيد إماما عادلا، زاهدا، ومجاهدا، وقد ذكر العديد من الكُتاب والشعراء ما يصفون به الرشيد من أخلاق حميدة وسمعة طيبة، فقد وُصف الرشيد في كتب الأولين بأنه كان كريما معطاء، وكان يتصدّق من ماله كل يوم ألف درهم، وكان يصلي كل يوم مائة ركعة، كما كان عندما يحج يأخذ معه مائة من الفقهاء وأولادهم وإذا لم يحج تكفل بنفقة الحجاج وكسوتهم، وكان الرشيد رحمه الله حنونا سريع الدمعة من خشية الله تعالي، وقد عرف بورعه الشديد وتواضعه.

 

وشهامته، وكان غيورا على دينه ومحافظا عليه، وكان مؤديا للصلوات الخمس في أوقاتها، وحاول أعداء التاريخ تشويه صورة هارون الرشيد، حيث شرعوا في تصويره على أنه ماجن، وشارب للخمر، وصاحب الليالي الحمراء والجواري، كما صوروه بأنه عسوف وظلوم، ولكن رغم كل هذه الادعاءات والوشايات كان من أعظم خلفاء الدولة العباسية، حيث يعتبر هارون هاشم الرشيد من أخير الخلفاء، فقد كان يحج عاما، ويغزو في العام الآخر، وفي زمنه فتح الله على يديه الكثير من البلاد، وشهد عصره اتساع رقعة البلاد الإسلامية، واستتب الأمن، وانتشر الرخاء، وزاد الخير، كما كان هارون حسن السيرة والسلوك، وحريصا على مجالسة العلماء، والأخذ منهم، وسماع المواعظ، وكان يتأثر بعد سماع المواعظ ويبكي، كما كان خاشعا، وكثير العبادة، والتهجد، والقراءة، والذكر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى