مقال

الدكروري يكتب عن الإمام إبن سيد الناس ” جزء 3″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام إبن سيد الناس ” جزء 3″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ونكمل الجزء الثالث مع الإمام إبن سيد الناس، فلما دخل دمشق في ثالث ربيع الآخر ذهب إلى قاضي القضاة شهاب الدين ليسلم عليه، وقال قدمت للسماع من ابن البخاري، فقال أول أمس دفناه، فتألم لموته وفواته السماع منه، لعلو إسناده بالسماع المتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الذهبي وهو آخر من كان في الدنيا بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية رجال ثقات، ولكنه لم يفته السماع من محدث معمر آخر هو مسند الشام تقي الدين الواسطي، إبراهيم بن علي، والتقى كذلك بالإمام المقرئ عز الدين الفاروثي، أحمد بن إبراهيم، المولود بفاروث بواسط في العراق، والذي جاور بمكة فترة ثم انتقل منها إلى دمشق سنة ستمائة وواحد وتسعون من الهجرة، فروى بها الكثير وأقرأ القراءات، قال ابن سيد الناس عنه الشيخ الإمام شيخ المشايخ.

 

ومن له في كل فضل اليد الطولى والقدم الراسخ، وكان ممن قرأ القرآن بالحروف، وازدحم الناس على القراءة عليه، والفوز بما لديه، وطلب الحديث قديما، ولم يزل لذلك مديما، وللسنة النبوية خديما، ثم يقول عن أناشيد شيخه العراقية، وكان في التذكير مقدما، وبالمواعظ الحسنة معلما، تنسلي إليه معاني الأدب في مواعظه وغيرها من كل حدب، سجية عراقية تمازج النسيم، وتعطر أسحارها من أشجارها على كل شميم، يرتجلها كيف يشاء، ولا يؤجل الأشياء، ناولته يوما استدعاء إجازة ليكتب عليه، فكتب مرتجلا أجزت لهم رواية كل شئ سماعا كان لي أو مستجازا، وما نوولته ايضا إذا ما توخوا في روايته احترازا، وما قد قلته نظما ونثرا، فقد أضحى الجميع لهم مجازا، والتقى فتح الدين في هذه الرحلة بالإمام الحاقظ المزي، جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن المزي.

 

المولود بظاهر حلب ودله على اللقاء بشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، وقال ابن سيد الناس ووجدت بدمشق من أهل العلم الإمام المقدم، والحافظ الذي فاق من تأخر من أقرانه ومن تقدم، أبا الحجاج المزي، بحر هذا العلم الزاخر، وحَبره القائل من رآه كم ترك الأوائل للأواخر، فهو أحفظ الناس للتراجم، وأعلم الناس بالرواة من أعارب وأعاجم، لا يخص بمعرفته مصرا دون مصر، ولا ينفرد علمه بأهل عصر دون عصر، وهو في اللغة أيضا إمام، فكنت أحرص على فوائده لأحرز منها ما أحرز، وهو الذي حداني على رؤية شيخ الإسلام ابن تيمية، فألفيته ممن أدرك من العلوم حظا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظا، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه، وذو روايته.

 

وكان ابن سيد الناس يخالط أمراء المماليك، وبخاصة الصالحين من أهل العلم منهم، ولعل أكبرهم هو الأمير علم الدين الدواداري، والذي كان مهيبا، حسن الخَلق والخُلق، عالما فاضلا، حافظا لكتاب الله، دارسا للفقه، وحصل له عناية بالحديث، فسمع الكثير، وكتب بخطه، وحصّل الأصول، وكان إذا خرج إلى غزوة خرج وإلى جانبه شخص يقرأ عليه جزءا فيه أحاديث الجهاد، وكان الشيخ فتح الدين خصيصا به ينام عنده ويسامره، وكان سبب اختصاص فتح الدين به أن الأمير سأل الحافظ المحدث شرف الدين الدمياطي عن وفاة البخاري، فما استحضر تأريخها، ثم إنه سأل فتح الدين عن ذلك فأجابه فحظي عنده وقرّبه، فقيل له إن هذا تلميذ الشيخ شرف الدين، فقال وليكن، وكان ابن سيد الناس على علاقة طيبة بالأمير الكبير أرغون بن عبد الله الناصري نائب السلطنة في مصر.

 

ثم نائب حلب، المتوفى بها سنة سبعمائة وواحد وثلاثون للهجرة، وله من العمر بضع وأربعون سنة، وكان عالما بالفقه خطاطا متقنا، وكان جمّاعة للكتب، جمع منها جمعا ما جمعه أحد من أبناء جنسه، وعلم الناس رغبته في الكتب فهرعوا إليه بها، وبلغ الأمير أرغون مرتبة الإفتاء في المذهب الحنفي، قال عنه ابن سيد الناس كان أرغون يعرف مذهب أبي حنيفة ودقائقه، ويقصر فهمه في الحساب إلى الغاية، وكان الأمير معجبا بالشيخ ابن سيد الناس يسعى في مصالحه لدى الدولة، والتقى بابن سيد الناس القاضي أبو البقاء البلوي، خالد بن عيسى، المتوفى بعد سنة سبعمائة وسبعة وستون للهجرة، في رحلته من الأندلس إلى المشرق، وروى عنه بيتين في كتابه تاج المفرق في تحلية علماء المشرق، هما “بالله إن جزت بواد الأراك، وقبلت عيدانه الخضر فاك، فابعث إلى المملوك من بعضها، فإنني والله مالي سواك”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى