مقال

الدكروري يكتب عن الإمام إبن حجر العسقلاني ” جزء 15″ 

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام إبن حجر العسقلاني ” جزء 15″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ونكمل الجزء الخامس عشر مع الإمام إبن حجر العسقلاني، وزدت عليهما في كثير من التراجم ما يتعجب من كثرته لديهما، ويستغرب خفاؤه عليهما وقع الكتاب المذكور من طلبة الفن موقعا حسنا عند المميز البصير، إلا أنه طال إلى أن جاوز ثلث الأصل، والثلث كثير، فالتمس مني بعض الإخوان أن أجرد له الأسماء خاصة، فلم أوثر ذلك، لقلة جدواه على طالبي هذا الفن، ثم رأيت أن أجيبه إلى مسألته، وأسعفه بطلبته، على وجه يحصل مقصوده بالإفادة، وأيضا ذكر مصادره ونقل أقوال العلماء ونسبتها إليهم ومن ذلك ماجاء في مقدمة كتابه إنباء الغمر هذا تعليق جمعت فيه حوادث الزمان الذي أدركته منذ مولدي سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة وهلم جرا مفصلا في كل سنة أحوال الدول عن وفيات الأعيان مستوعبا لرواة الحديث خصوصا من لقيته أو أجاز لي.

 

وغالب ما أورد فيه ما شاهدته أو تلقفته ممن أرجع إليه أو وجدته بخط من أثق به من مشايخي ورفقتي كالتاريخ الكبير للشيخ ناصر الدين بن الفرات وقد سمعت عليه جملة من الحديث، وقد بدأ المرض بالحافظ ابن حجر في ذي القعدة سنة ثماني مائة واثنين وخمسين للهجرة، ومع مرضه إلا أنه كان يواصل أعماله ويحضر مجالس الإملاء وهو ضعيف الحركة، يكتم عن الناس وعكه، وخشي الأطباء أن يناولوه مسهلا لأجل سنه، فأشير بلبن الحليب، فتناوله، فلانت الطبيعة قليلا، وأدى ذلك إلى نشاط يسير ونوع خفة، ثم عاد الكتمان، وتزايد الألم بالمعدة، ولم يستطع أن يؤدي صلاة الأضحى الذي صادف يوم الثلاثاء، وهو الذي لم يترك صلاة جمعة ولا جماعة، وصلى الجمعة التي تلي العيد، وكان آخر ما سمع عليه فضل ذي الحجة لابن أبي الدنيا يوم عرفة.

 

وتوجه إلى زوجته الحلبية، وقد احس بدنو أجله، فاعتذر عن انقطاعه عنها، واستعطف خاطرها واسترضاها، وكان يقول “اللهم حرمتني عافيتك، فلا تحرمني عفوك” وقد تزايد المرض واشتد به، وتردد إليه الأطباء، وهرع الناس من الأمراء والقضاة والعلماء والمباشرين والطلبة لعيادته، وممن حضر إليه هو الأمير دولات باي، والقاضي ولي الدين السفطي، والبدر العيني، والقاضي سعد الدين بن الديري، وفي يوم الثلاثاء الرابع عشر من شهر ذي الحجة، اشتد عليه مرضه، وصار يصلي الفرض جالسا، وترك قيام الليل، ثم تتابع عليه الصرع من يوم الأربعاء إلى أن توفي ليلة السبت في أواخر شهر ذي الحجة سنة ثماني مائة واثنين وخمسين للهجرة، وقد اختلف مترجموه في تحديد تاريخ يوم وفاته، كما اختلفوا في تحديد يوم ولادته، مع اتفاقهم على أن وفاته كانت ليلة السبت.

 

من ذي الحجة، إلا أنهم اختلفوا أي سبت هو، فقال بعضهم كانت وفاته في الثامن والعشرين من ذي الحجة، وقال آخرون في التاسع عشر منه، وذهب فريق ثالث إلى أن وفاته كانت في الثامن عشر من ذي الحجة، وكانت جنازته مشهودة، لم يكن بعد جنازة ابن تيمية أحفل منها، وقال السخاوي “وكانت ساعة عظيمة، وأمرا مهولا، ووقع النوح في سائر النواحي من أصناف الخلق، حتى من أهل الذمة، واجتمع في جنازته من الخلق مَن لا يحصيهم إلا الله عز وجل، بحيث ما أظن كبير أحد من سائر الناس تخلف عن شهودها، وقيل قفلت الأسواق والدكاكين، ويقال إنه قدر من مشى في جنازته بنحو خمسين ألف إنسان، وعندي أنه لا يتهيأ حصرهم، ولا يدرك حدُهم” وقد شعيته جثمانه القاهرة كلها وحمل نعشه إلى مصلى المؤمني حيث أمر السلطان جقمق.

 

بأن يحضر إلى هناك، ومشى في جنازته الخليفة سليمان المستكفي بالله، والقضاة، والعلماء، والأمراء، والأعيان بل غالب الناس، حتى قيل عن بعض الأذكياء أنه قدرمن مشى في الجنازة أكثر من خمسين ألف إنسان، ولما وصلت جنازته المصلى أمطرت السماء على نعشه مطرا خفيفا، ولم يكن زمان مطر، وفي هذه الواقعة يقول الشِّهابُ المنصوري ” قد بكت السحب على قاضي القضاة بالمطر، وانهدم الركن الذي كان مشيدا من حجر، وتقدم ليصلي عليه صلاة الجنازة الخليفة العباسي سليمان المستكفي بالله، بإذن من السلطان جقمق، وقيل صلى عليه قاضي القضاة علم الدين البلقيني، وبعد الصلاة حُملت الجنازة إلى المحل الذي عُيِّن لدفنه، في القرافة الصغرى، وتزاحم الأمراء والأكابر على حمل نعشه، وكان ممن حمله السلطان جقمق.

 

ومشى إِلى تربته من لم يمش نصف مسافتها قط، وانتهوا إلى تربة بني الخروبي المقابلة لجامع الديملي، فدفن بين مقام الشافعي، ومقام الشيخ مسلم السلمي، وصُلي عليه صلاة الغائب في جميع أنحاء العالم الإسلامي، في مكة، وبيت المقدس، وحلب، والخليل، وغيرها من بلاد المسلمين، وترك الإمام الحافظ ابن حجر عدة وصايا، اعتمدوا الأخيرة منها، وقد نقل السخاوي نصها عن سبطه يوسف بن شاهين، ومما ورد فيها أنه أوصى لطلبة الحديث النبوي والمواظبين على حضور مجالس الإملاء بجزء من تركته، حيث قال ما نصه ” إبن حجر العسقلاني وقد أوصيت لكل من طلبة الحديث النبوي المتحقِقين بطلبه والاشتغال به أكثر من الاشتغال بغيره من سائر العلوم الدينية ممن شهد لهم بذلك جماعة أهل العلم بالحديث، وهم القاضي نور الدين ابن سالم، وبرهان الدين البقاعي.

 

وتقي الدين القلقشندي، ونجم الدين عمر بن فهد المكي، وقطب الدين الخيضري، وشمس الدين بن قمر إمام المدرسة الركنية بيبرس، ومحمد بن عبد الرحمن السخاوي، وفخر الدين عثمان الديمي، وزين الدين قاسم بن قطلوبغا الحنفي، بمائتي دينار، تقسم بينهم بالسوية، ولكل من كان يواظب مجلس الإملاء بالسوية بينهم مائة دينار، ولكل من كان يتعاهد ذلك أحيانا وأحيانا منهم مائة دينار بينهم بالسوية، يقدم الأحوج فالأحوج، وهكذا هب النهاية دائما وهو الموت الذي ينتظر كل كائن حي فبعد أن طال مرضه الحافظ ابن حجر رحمه الله شهرا، إلى أن كانت ليلة السبت الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة ثماني مائة واثنين وخمسون للهجرة، وبعد صلاة العشاء بساعة جلس حوله بعض أصحابه يقرءون سورة يس مرة، ثم أعيدت إلى قوله تعالى ” سلام قول من رب رحيم” حتى فارقت الروح إلى بارئها، فرحمة الله تعالي علي الفقيه العلامة الحافظ ابن حجر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى