مقال

الدكروري يكتب عن الفاروق عمر في بيت المقدس. 

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الفاروق عمر في بيت المقدس.
بقلم / محمـــد الدكـــروري

إن قراءة الحوادث والإلمام بالتواريخ والاطلاع على أحوال الدول، ومصير الأمم يقود إلى الاعتبار والادكَار ويكون سببا للزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة لأن العبد يرى فيما يقرأ أشخاصا تملكوا ثم مُلكوا، وأمما عزت ثم ذلت، ودولا أقبلت ثم أدبرت، ولا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام، فيقول تعالي في سورة غافر” لمن الملك اليوم لله الواحد القهار” ومما سجله التاريخ هو ما وقع في شهر ربيع من فتح بيت المقدس، معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ثم كان مسرى خاتم النبيين ورسول رب العالمين محمد صلى الله عليه وسلم إذ جمع له فيه الأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام فأمّهم في محلتهم ودارهم، وكان هذا الفتح العظيم في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولكن بشائره كانت زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قبل أن تدين له العرب، وقبل أن تفتح على يده مكة وكانت تلك البشارة حينما قابل هرقل الروم أبا سفيان، وكفار قريش وسألهم جملة من الأسئلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تلك المقابلة بإيلياء أي بيت الله الذي هو بيت المقدس فما أن انتهى هرقل من أسئلته، والمشركون من إجابة تلك الأسئلة، حتى أطلق هرقل تلك البشارة التي أذهلت كفار مكة وقالها وهو يتحسّر على ملكه، ونفسه يتنازع فيها داعي الإسلام وداعي الملك، وقلبه يضطرب بين حظ الدنيا وفوز الآخرة لكنه في نهاية المطاف اختار الملك والدنيا فخسر الملك والدنيا والآخرة، فقال هرقل لأبي سفيان رضي الله عنه “فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشّمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه”

وإنها آية بينة، وبشارة متقَدمة، فكانت بشارة بفتح بيت المقدس، وإزالة عرش الرومان، وكانت تلك البشارة قبل أن يتم فتح مكة، فما أعظمها من آية، وما أطيبها من بشارة، ودار التاريخ دورته، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كمل به الدين، وتمت به النعمة، ثم تولي خليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقضى على الردّة، وأرسى دعائم الملة، ثم انسابت جيوشه الفاتحة صوب الشام تحقيقا للبشارة، ومات الصديق رضي الله عنه وجيوش الإسلام قاب قوسين أو أدنى من تحقيق البشارة، وخلفه الفاروق عمر بن الخطاب، وجيوش الحق تواصل فتحها حتى بلغت بيت المقدس، فحاصر المسلمون أهلها، ثم تصالحوا بعد الحصار، وقيل بعد القتال على أن يقدم الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المدينة ليباشر الصلح بنفسه.

لما علموا من سيرته وعدله، فكتب أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يخبره بشرط أهل إيلياء، فشاور الفاروق عمر أصحابه في الخروج، ثم انشرح صدره إلى القدوم على بيت المقدس، واستخلف الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين على المدينة، وسار إلى حيث مدينة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكتب إلى أمراء الأجناد أن يستخلفوا على أعمالهم ويوافوه بالجابية، وفي رواية أخرى أنه وافاهم عند بيت المقدس، فلما بلغ الجابية من أعمال الشام نزل بها، وخطب خطبة بليغة طويلة مشهورة كان منها قوله رضي الله عنه “أيها الناس، أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا أمر دنياكم، واعلموا أن رجلا ليس بينه وبين آدم أب، ولا بينه وبين الله هوادة، فمن أراد لحب وجه الجنة.

أي طريقها فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد ” إلخ خطبته البليغة وجاءه رجل من يهود دمشق فقال له “السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب إيلياء لا والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء” وصالح الفاروق عمر بن الخطاب أهل الجابية ثم سار وقادته إلى بيت المقدس، وكان رضي الله عنه في غاية التواضع والاستكانة والذلة لله رب العالمين، وقال أبو الغادية المزني “قدم علينا عمر الجابية، وهو على جمل أورق، تلوح صلعته للشمس، ليس عليه عمامة ولا قلنسوة، بين عودين، وطاؤه فرو كبش نجدي، وهو فراشه إذا نزل، وحقيبته شملة أو نمرة محشوة ليفا وهي وسادته، عليه قميص قد انخرق بعضه، ودسم جيبه” وهكذا نقلوا في وصف مركبه وملبسه، وهيئته وعُدته، ولو أراد رضي الله عنه للبس الحرير، ومشى على الديباج.

وركب أصيلات الخيل ولو شاء لحمل معه المتاع الكثير، ولأحاطت به المراكب، وحفت به المواكب ولكنه رضي الله عنه علم قيمة الدنيا فأعطاها مستحقها، وعلم قدر الآخرة ففرغ قلبه لها، وعمل عملها، وسعى لها سعيها، وقد حاول أمراء الجيش أن يحسّنوا من هيئته المتواضعة أمام الأعداء ولكن مَن يقدر على مَن؟ أيقدرون على عمر الذي كان كبير الشياطين يخافه، ويسلك فجّا غير فجّه؟ فقال له أمين الأمة أبو عبيدة رضي الله عنه “يا أمير المؤمنين، لو ألقيت عنك هذا الصوف، ولبست البياض من الثياب، لكان أهيب لك في قلوب هؤلاء الكفار، فقال عمر رضي الله عنه “لا أحب أن أعوّد نفسي ما لم تعتده، فعليكم معشر المسلمين بالقصد” وباءت محاولة أبي عبيدة بالفشل فحاول يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما.

فقال “يا أمير المؤمنين، إنا في بلد الخصب والدعة، والسعر عندنا بحمد الله رخيص، والخير عندنا كثير من الأموال والدواب والعيش الرفيع، وحال المسلمين كما تحب، فالبس ثيابا بيضا واكسها الناس، واركب الخيل واحمل الناس عليها فإنه أعظم لك في عيون الكفار، وألقي عنك هذا الصوف فإنه إذا رآك العدو على هذه الحال ازدراك، فقال عمر رضي الله عنه “يا يزيد ما أريد أن أتزيّن للناس بما يشينني عند الله عز وجل ولا أريد أن يعظم أمري عند الناس، ويصغر عند الله عز وجل فلا ترادني بعدها في شيء من هذا الكلام” وواصل الفاروق عمر رضي الله عنه مسيره إلى بيت المقدس على تلك الحال المتواضعة فعرضت له مخاضة طين فنزل عن بعيره، ونزع نعليه فأمسكها بيد وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة عامر بن الجراح.

” قد صنعت اليوم صُنعا عظيما عند أهل الأرض، صنعت كذا وكذا، قال فصكّ في صدره وقال أولو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس، وأحقر الناس، وأقلّ الناس، فأعزكم الله بالإسلام فمهما تطلبوا العز بغيرة يذلكم الله” فلما بلغ الفاروق عمر بيت المقدس خرج إليه بطريركها صفرونيوس وكتب عمر رضي الله عنه لهم الأمان لأنفسهم وأموالهم وكنائسم وصلبانهم، ولا ينتقص شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم في مقابل أن يعطوا الجزية للمسلمين، وسلم البطريرك مفاتيح القدس للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم بَكى البطريرك فقال له عمر “لا تحزن، هوّن عليك، فالدنيا دواليك، يوم لك ويوم عليك” فقال البطريرك “أظننتني على ضياع الملك بكيت، والله ما لهذا بكيت، وإنما بكيت لما أيقنت أن دولتكم على الدهر باقية.

ترق ولا تنقطع، فدولة الظلم ساعة، ودولة العدل إلى قيام الساعة، وكنت حسبتها دولة فاتحين تمر ثم تنقرض مع السنين” وتم الفتح ودخل الفاروق عمر بيت المقدس من الباب الذي دخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وصلى فيه مستقبلا القبلة، وجعل يزيح بردائه الأقذار التي رماها النصارى في قبلته، ولما رأى المسلمون فعل الفاروق عمر أخذوا في تنظيف المسجد من أقذار النصارى، ثم بعد الفتح عاد رضي الله عنه إلى المدينة على ذات الجمل الذي قدم عليه، وعلى نفس الهيئة التي كان عليها قبل الفتح لأن اهتمامه رضي الله عنه ما كان بالشكليات والمظاهر، وإنما كان بأصول الشيء ومعانيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى