مقال

الدكروري يكتب عن الإمام إبن عساكر” جزء 3″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام إبن عساكر” جزء 3″
بقلم / محمـــد الدكـــروري

ونكمل الجزء الثالث مع الإمام الحافظ إبن عساكر، واتبع في التراجم التنظيم الألفبائي المعروف، مراعيا في ذلك أسماء الآباء بعد أسماء المترجمين، لكنه بدأ التراجم بمن اسمه أحمد، تيمنا باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن فرغ من التراجم المرتبة أسماؤها ترتيب المعجم، أورد من عُرف من الرجال بكنيته فقط، مراعيا في ذلك الترتيب الألفبائي أيضا، ثم أعقب ذلك بالمجاهيل ممن عُرفت لهم رواية ولم يعرف لهم اسم، ثم ختم الكتاب بتراجم النساء، ملتزما المنهج نفسه في الترتيب والتنظيم، وقد خصهن بمجلد مستقل، اتسع لمائة وست وتسعين ترجمة من شهيرات النساء في العلم والأدب والغناء، وقد اعتمد ابن عساكر في جمع مادة كتابه الضخمة على ثلاثة أنواع من المصادر، وهم السماع من شيوخه وهم يعدون بالمئات روى عنهم وقرأ عليهم، ثم المكاتبة والمراسلة معهم.

ثم الاعتماد على مؤلفات السابقين، ويحتاج إحصاء هذه الموارد التي نهل منها ابن عساكر إلى جهد جهيد، نظرا لضخامة الكتاب، وحسبك أن تعلم أن المجلدة الأولى من الكتاب، أخذت مواردها عن مائة وستة وخمسين شيخا بالسماع، وعن ستة عشر شيخا بالمكاتبة، وأربعة عشر كتابا من بينها كتب البلاذري والواقدي والبخاري والجشهياري، ولعل من أهم ما صنعه ابن عساكر أنه حفظ لنا بكتابه المؤلفات والمصادر المتفرقة التي كتبها الدماشقة وغيرهم حول تاريخ دمشق في القرون السابقة ثم أتى عليها الضياع، كما رسم صورة لبلاد الشام وحركة السياسة بها، وازدهار الحضارة العربية، والنشاط الثقافي الذي كانت تموج به دمشق منذ أن فتحها المسلمون، وقد لقي الكتاب عناية واهتماما بدءا من جهود القاسم ابن المؤلف، الذي ذيله وانتخب منه، ثم قام عدد من العلماء باختصار الكتاب.

مثل ابن منظور الذي صنع مختصرا لتاريخ دمشق، وعلى الرغم من كونه اختصارا فقد جاء في تسع وعشرون مجلدا حين تم طبعه أخيرا محققا في دمشق، وفي العصر الحديث قام عبد القادر بدران، بعمل تهذيب للكتاب، لكنه لم يكمله، ولقد كان بيت الحافظ ابن عساكر معمورا بالعلم، فامتد إلى كل فرد من أفراده، واستطاع الإمام الحافظ بأخلاقه الكريمة وسماحه نفسه أن تقتدي به أسرته، وتسير على منواله، فابنه القاسم كان حافظا من حفاظ الحديث، أتم عمل أبيه ونقّحه وقرأه عليه، وزوجة الإمام وأم أبنائه هي السيدة عائشة بنت علي بن الخضر، وكان لها شغف بالحديث، فكان الزوج الكريم يحضر لها محدثات يسمعنها الحديث، ثم يسمع منها أبناؤها ويتلقون عنها كما يتلقون عن أبيهم، وشاء الله أن تتوفى هذه السيدة الكريمة قبل وفاة زوجها في سنة خمسمائة وأربعة وستون للهجرة.

فتركت في نفسه أسى وحسرة، وظل الإمام محل تقدير الناس والولاة، فكان يحضر مجالسه نور الدين محمود سلطان دمشق الذي قربه وبنى له دار السنة، وكان صلاح الدين الأيوبي، يجله ويحضر مجالس تدريسه، ومكث الإمام ابن عساكر يؤدي رسالته حتى لبّى نداء ربه في الحادي عشر من شهر رجب لعام خمسمائة وواحد وسبعين للهجرة، وقد ترجم له الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء ترجمة طويلة حافلة بالمناقب والفضائل، وأما عقيدته فقد كان ينسب إلى الأشاعرة، وكان بينه وبين المقدسيين الحنابلة خلاف، ونسأل الله أن يرحم علماء المسلمين ويغفر لهم ما أخطأوا فيه، ويجزيهم خير الجزاء على ما قدموه للإسلام والمسلمين، وذكر بعض المؤرخين بأن عدة الشيوخ الذين سمع منهم ألف وثلاثمائة شيخ، وثمانون امرأة، واعتنى أبو القاسم بعلم بالحديث.

وساد أهل زمانه في الحديث ورجاله وبلغ في ذلك الذروة العليا، ولم يخرج عن إطار الحديث، والفقه، والتاريخ، والأخبار، والأدب، وهي الموضوعات التي خاض عبابها، وما كان اعتماده على النقل فقط، بل كان يستعمل العقل أيضا، يدل على ذلك مذهبه في المصنفات التي خلفها، فهو معني بحل المشاكل، يناقش ويجادل بعيدا عن التعصب لمذهبه الشافعي، وكان إلى الاجتهاد أقرب منه إلى التقليد والجمود والوقوف عند أقوال من كان قبله، ولا غرو فالتاريخ يوسع العقل، ويورث صاحبه نوراً لا يستضيء بمثله عقل من لم يرزق حظا من النظر فيه، ومن أقوال العلماء فيه، أنه قال السمعاني عنه أنه كان كثير العلم غزير الفضل، حافظا، متقنا، ديِّنا، خيِّرا، حسن السمت، جمع بين المتون والأسانيد، متثبتا، محتاطا، وقال ابن خلكان كان محدث الشام في وقته، ومن أعيان فقهاء الشافعية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى