مقال

الدكروري يكتب عن الإمام يحيي بن معين ” جزء 4″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام يحيي بن معين ” جزء 4″
بقلم / محمـــد الدكـــروري

ونكمل الجزء الرابع مع الإمام يحيي بن معين، وكان يحيى بن معين على جلالة قدره وهيبته، خفيف الروح مع أصحابه المقربين من المحدثين، ومن مزاحه معهم أنه لقب بعضهم بألقاب محببة لا نبز فيها، أحبها من أطلقت عليه وتشرف بها، فلقب محمد بن إبراهيم بمربع، ولقب عبيد بن حاتم بالعجل، ولقب صالح بن محمد بجزرة، ولقب محمد بن صالح بكيلجة، والكيلجة وهي مثقال من الأوزان، وهؤلاء كلهم من كبار أصحابه وحفاظ الحديث، وقد تأثر الإمام يحيى بن معين بأساطين الفقه الحنفي في عصره من تلاميذ الإمام أبي حنيفة، وأولهم تلميذه الإمام القاضي أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم، وكان من المحدثين، وقال الإِمام أحمد بن حنبل أول ما طلبت الحديث اختلفت إلى أبي يوسف فكتبت عنه، ثم درت على المشايخ، وقال يحيى بن معين يقول ما رأيت في أصحاب الرأي.

أثبت في الحديث، ولا أحفظ، ولا أصح رواية من أبي يوسف، أبو يوسف صاحب حديث وصاحب سنة، وقال يحيى بن معين القراءة عندي قراءة حمزة، والفقه فقه أبي حنيفة على هذا أدركت الناس، ونقل يحيى بن معين عن يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو من أقران الإمام مالك، قوله جالسنا والله أبا حنيفة وسمعنا منه، وكنت والله إذا نظرت إليه عرفت في وجهه أنه يتقي الله عز وجل، وأخذ الإمام يحيى بن معين عن تلميذ أبي حنيفة الإمام محمد بن الحسن الشيباني، وكتب عنه كتاب الجامع الصغير، وتأثر ابن معين بمدرسة أبي حنيفة الفقهية وبدا ذلك واضحا في اختياراته الفقهية التي خالف فيها أهل الحديث، حتى قال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء قد كان أبو زكريا رحمه الله حنفيا في الفروع، ثم عدد الذهبي آراءه الفقهية التي تبع فيها المذهب الحنفي.

ومنها رأيه في زكاة الفطر لا بأس أن تعطى فضة، وأن من صلى خلف الصف وحده يعيد الصلاة، ومن صلى بقوم على غير وضوء، قال لا يعيدون ويعيد، ولما رحل ابن معين إلى الشام قابل محدثها الإمام أبو مسهر، عبد الأعلى بن مسهر الغساني الدمشقي، ويبدو أن بعض المحدثين في دمشق رغبوا من يحيى بن معين أن يحدثهم، فأبى وقال ما رأيت منذ خرجت من بلادي أحدا أشبه بالمشيخة الذين ادركت من ابي مسهر، والذي يحدث وفي البلد من هو أولى بالتحديث منه فهو أحمق، وكان علم الحديث في ذلك العصر قائما على أن يكتب كل محدث ما يسمعه من أحاديث بيده، فلا يعتمد على كتابة غيره، بل عُدّ ذلك ثلبا في بعض المحدثين، وكان عماد ذلك أن يكون القلم والمحبرة جاهزين لئلا يفوت المحدث بعض الكلام وهو يبري قلمه أو يصلح دواته.

ولذا قال يحيى بن معين إذا رأيتَ الرجل يخرج من منزله بلا محبرة ولا قلم، يطلب الحديث، فقد عزم على الكذبة، وكان منهج يحيى بن معين هو كتابة كل ما يسمعه من الشيوخ أو العلماء دون اقتصار على الحديث الصحيح وكان يقول سيندم المنتخب في الحديث حيث لا تنفعه الندامة، وكان كذلك لا يقتصر في النقل والكتابة على مادة اختصاصه وهي الحديث الشريف، وكان يحيى بن معين يقول إذا كتبت فقمّش، وإذا حدّثت ففتش، والتقميش هو جمع الفوائد من هنا وهناك، وفي سنة مائتان وثماني عشر من الهجرة، بدأ الخليفة العباسي المأمون في محاولة إجبار العلماء على اعتناق المذهب المعتزلي الذي يقول إن القرآن مخلوق من مخلوقات الله وليس كلاما صادرا عنه، وهو ما يسميه المؤرخون بمحنة خلق القرآن، وكانت عقوبة القتل تنتظر من لم يقل إن القرآن مخلوق.

بحجة أنه قد كفر بأن نسب إلى الله صفة بدنية من صفات المخلوقات وهي الكلام، وأظهر عدد كبير من العلماء موافقتهم على هذا الرأي خشية من القتل، واستعمل بعضهم التورية في ذلك، إلا الإمام أحمد بن حنبل الذي رفض بإصرار وضُرب ضربا مبرحا بالسياط دون أن يتراجع عن رأيه، وكان الإمامان يحيى بن معين وعلي بن المديني ممن أظهر موافقته على أن القرآن مخلوق، وذلك خوفا من السيف، وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن كتابة الحديث عن يحيى بن معين وأمثاله، فكان لا يرى الكتابة عن أبي نصر التمار، ولا عن يحيى بن معين، ولا أحد ممن امتحن فأجاب وتبرير ذلك مع تمام الثقة بصحة نقلهم وبعدهم عن الكذب أن ذلك يضعهم في موقع الأستاذية، فيتأثر الناس بآرائهم،أما يحيى بن معين فقد كان له رأي مغاير، فقد ذكر عنده علي بن المديني مرة فحمل الحاضرون عليه.

فقال أحدهم ليحيى يا أبا زكريا، ما عليّ عند الناس إلا مرتد فقال ما هو بمرتد، هو على إسلامه رجل خاف فقال، ما عليه؟ وقيل خرج يحيى بن معين من بغداد إلى الحج في سنة مائتان وثلاث وثلاثين من الهجرة، وحدث أحد رفاقه أنهم لما وصلوا بلدة فيد، أهدي إلى يحيى فالوذج لم ينضج، قال فقلنا له يا أبا زكريا، لا تأكله، فإنا نخاف عليك، فلم يعبأ بكلامنا وأكله، فما استقر في معدته حتى شكا وجع بطنه وانسهل، إلى أن وصلنا إلى المدينة ولا نهوض به، فتفاوضنا في أمره، ولم يكن لنا سبيل إلى المقام عليه لأجل الحج، ولم ندري ما نعمل في أمره، فعزم بعضنا على القيام عليه وترك الحج، وبتنا فلم يصبح حتى وصّى ومات، فلما أصبحنا تسامع الناس بقدومه وبموته، فاجتمع العامة، وجاءت بنو هاشم، فقالوا نخرج له الأعواد التي غسل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فكره العامة ذلك، وكثر الكلام، فقالت بنو هاشم نحن أولى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أهل أن يغسل عليها، فغسل عليها، وصلى عليه الناس، وخرجت جنازته، ورجل ينادي بين يديه هذا الذي كان ينفي الكذب عن حديث رسول الله، وقال عباس الدوري سمعت يحيى بن معين مرارا يقول القرآن كلام الله، وليس بمخلوق، والإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وقال عباس الدوري مات يحيى بن معين، فحُمل على أعواد النبي صلى الله عليه وسلم أي السرير الذي حُمل عليه، ونودي بين يديه هذا الذي كان ينفي الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أحمد بن محمد بن غالب لما مات يحيى بن معين، نادى إبراهيم بن المنذر الحزامي من أراد أن يشهد جنازة المأمون على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليشهد، وتوفي يحيى بن معين بالمدينة في ذي القعدة، سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وهو ابن خمس وسبعين سنة، ودفن بالبقيع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى