مقال

الدكروري يكتب عن الإمام العز إبن عبد السلام ” جزء 9″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام العز إبن عبد السلام ” جزء 9″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ونكمل الجزء التاسع مع الإمام العز إبن عبد السلام، وطرحت المشكلة في استيلاء هولاكو على البلاد، وأن بيت المال خالي من الأموال، والسلطان صغير السن، وقال ابن تغري بردي وأفاضوا في الحديث، فكان الاعتماد على ما يقوله ابن عبد السلام، وسكت الأمراء والقضاة والعلماء، ولم يجرؤ أحد على الاعتراض على عزم الملك الجديد قطز في فرض الضرائب على الشعب دون الأمراء وبيت السلطان، وهنا ظهرت نصيحة العز الجريئة والحازمة، فأفتى بخلع السلطان الصغير، وجواز تعيين ملك قوي مكانه، وهو قطز، ثم وجه له النصيحة في أمر الضرائب مدافعا عن الشعب ومبيّنا للحق، فقال إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء من السلاح.

 

والسروج الذهبية والفضية والكبابيس المزركشة وأسقاط السيوف والفضة وغير ذلك، وأن تبيعوا مالكم من الحوائص الذهبية والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على سلاحه ومركوبه، ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقايا في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا، ولما أراد الظاهر بيبرس أن يستلم السلطة والحكم، استدعى الأمراء والعلماء لمبايعته، وكان بينهم العز بن عبد السلام الذي فاجأ الظاهر بيبرس بكل جرأة وشجاعة وقال له يا ركن الدين، أنا أعرفك مملوك البندقدار، أي لا يصح مبايعة المملوك في استلام السلطة، فأحضر بيبرس ما يثبت أن البندقدار قد وهبه للملك الصالح أيوب، وأن الصالح أيوب قد أعتقه، وهنا تقدم العز وبايعه على الملك، وكان الظاهر بيبرس يعظم الشيخ العز ويحترمه، ويعرف مقداره، ويقف عند أقواله وفتاويه.

 

وقال السيوطي عن الظاهر بيبرس وكان بمصر منقمعا تحت كلمة الشيخ عز الدين بن عبد السلام، لا يستطيع أن يخرج عن أمره، حتى إنه قال لما مات الشيخ ما استقر ملكي إلا الآن، وأما عن مناصب العز بن عبد السلام وأعماله، فهي الإفتاء، ولم يكن للإفتاء منصب رسمي ووظيفة مرسومة في الدولة الإسلامية، وأول ما ظهر ذلك بصفة رسمية وحكومية في الدولة العثمانية، وكان العلماء يقومون بهذا المنصب من تلقاء أنفسهم، فهم يعتقدون أن كل من حصّل علما وبلغ مرحلة التعرف الصحيح للأحكام وجب عليه أن يبين الشرع والدين للناس، وقام العز بن عبد السلام بالإفتاء في الشام، وكان يدعى مفتي الشام، واستمر بالإفتاء حتى عزله الملك الأشرف موسى بسبب الفتنة حول تفسير كلام الله تعالى، فظهر موقف العز من الإفتاء والفتوى قائلا أما الفتيا فإني كنت مُتبرّما بها وأكرهها.

 

وأعتقد أن المفتي على شفير جهنم، ولولا أني أعتقد أن الله أوجبها علي لتعينها علي في هذا الزمان، لما كنت تلوثت بها، والآن فقد عذرني الحق وسقط عني الوجوب وتخلصت ذمتي، ولله الحمد والمنة، وبقي العز على تلك الحالة ثلاثة أيام حتى تدخل شيخ الحنفية جمال الدين الحصيري وأنكر على السلطان عمله، فتراجع السلطان نهائيا عن موقفه ومعتقده، وعاد العز إلى الإفتاء ولكنه رفض صلة الملك وأمواله وتجاوزت شهرته بلاد الشام، وأرسلت إليه الفتاوى من مختلف البلاد، فقال ابن كثير وقصد بالفتاوى من الآفاق، حتى قصده أهل الموصل من العراق بالاستفتاء في مجموعة أسئلة، فأجاب عنها وجُمعت في مؤلفاته باسم الفتاوى الموصلية، ولما توجه العز إلى مصر، كانت سمعته في العلم والإفتاء قد سبقته، فلما حل في الديار المصرية سنة ستمائة وتسع وثلاثين من الهجرة.

 

اعترف له علماؤها ومفتوها بالفضل، وامتنعوا عن الفتوى بوجوده، وقال الحافظ المنذري الفقيه الشافعي المفتي، كنا نفتي قبل حضور الشيخ عز الدين، فأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعين فيه، وكان العز قد تجاوز الستين من عمره، ولكن لم تخر قواه، ولم يؤثر عليه كبر السن، فأصدر في مصر الفتاوى الجسيمة التي تتعلق بالأمراء وبيع الملوك، وفتوى هدم الطبلخانة، وغير ذلك من الفتاوى، وبقي العز يفتي في مصر حتى توفي، وكان العز جريئا في الفتاوى، فمثلا، عندما كان الملك الكامل سلطان مصر في دمشق، واجتمع بالعز بعد وفاة الملك الأشرف موسى وتعيين الملك الصالح إسماعيل، سأل الكامل العز عما يصدر من أخيه الملك إسماعيل بحضوره من هواية رمي البندق، وهل يجوز ذلك؟ فلم يتهيب العز من بيان الحق والحكم الشرعي، فقال بل يحرم عليه.

 

فإن رسول الله صلي الله عليه وسلم نهى عنه وقال إنه “يفقأ العين، ويكسر العظم” وكان العز متهيبا من الفتوى، وكان جريئا في الرجوع إلى الحق إذا تبين أنه أخطأ، فقد حكى القاضي عز الدين البكاري أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أفتى مرة بشيء، ثم ظهر له أنه أخطأ، فنادى في مصر والقاهرة على نفسه من أفتى له ابن عبد السلام بكذا، فلا يعمل به، فإنه خطأ، وكان من عمله أيضا هو التدريس، حيث درّس العز بن عبد السلام في المدرسة الصالحية التي بناها الملك الصالح أيوب سنة ستمائة وواحد وأربعين من الهجرة، وذلك بعد أن حصّل العز بن عبد السلام العلوم وتقدم في الحفظ والفهم، اتجه إلى العطاء والإفادة في عدة جوانب، وخاصة التدريس الذي مارسه من أول حياته العلمية في دمشق وحتى آخر عمره في القاهرة، إذ ألقى الدروس في دمشق في بيته وفي المساجد، وفي كل مكان وُجد فيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى