مقال

الدكروري يكتب عن الإمام ابن خلدون ” جزء 2″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام ابن خلدون ” جزء 2″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ونكمل الجزء الثاني مع الإمام ابن خلدون، وإن مؤلف ابن خلدون هو أحد أهم المؤلفات التي أنجزها الفكر الإنساني، وإن مؤلف ابن خلدون يمثل ظهور التاريخ كعلم، وهو أروع عنصر فيما يمكن أن يسمى بالمعجزة العربية، وإن مكانة عائلته الاجتماعية مكنته من الدراسة على يد أفضل المدرسين في المغرب العربي، فتلقى علم التربية الإسلامية التقليدية، ودرس القرآن الكريم الذي كان يحفظه عن ظهر قلب، واللسانيات العربية، وأساس فهم القرآن، الحديث، الشريعة أوالقانون والفقه علم التاريخ، ولقد تجمعت في شخصية ابن خلدون العناصر الأساسية النظرية والعملية التي تجعل منه مؤرخا حقيقيا رغم أنه لم يول في بداية حياته الثقافية عناية خاصة بمادة التاريخ ذلك أنه لم يراقب الأحداث والوقائع عن بعد كبقية المؤرخين، بل ساهم إلى حد بعيد ومن موقع المسؤولية في صنع تلك الأحداث والوقائع.

 

خلال مدة طويلة من حياته العملية تجاوزت خمسين عاما، وضمن بوتقة جغرافية امتدت من الأندلس وحتى بلاد الشام، فقد استطاع، ولأول مرة، إذا استثنينا بعض المحاولات البسيطة هنا وهناك أن يوضح أن الوقائع التاريخية لا تحدث بمحض الصدفة أو بسبب قوى خارجية مجهولة، بل هي نتيجة عوامل كامنة داخل المجتمعات الإنسانية، لذلك انطلق في دراسته للأحداث التاريخية من الحركة الباطنية الجوهرية للتاريخ، فعلم التاريخ، وإن كان لايزيد في ظاهره عن أخبار الأيام والدول إنما هو في باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، لذلك فهو أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق المقدمة، فهو بذلك قد اتبع منهجا في دراسة التاريخ يجعل كل أحداثه ملازمة للعمران البشري وتسير وفق قانون ثابت.

 

ويقول فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران ونميز ما يلحقه لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضا لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك، كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار، والصدق من الكذب بوجه برهان لا مدخل للشك فيه، وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه، وكان ذلك لنا معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه، وهكذا فهو وإن لم يكتشف مادة التاريخ، فإنه جعلها علما ووضع لها فلسفة ومنهجا علميا نقديا نقلاها من عالم الوصف السطحي والسرد غير المعلل إلى عالم التحليل العقلاني والأحداث المعللة بأسباب عامة منطقية ضمن ما يطلق عليه الآن بالحتمية التاريخية.

 

وذلك ليس ضمن مجتمعه فحسب، بل في كافة المجتمعات الإنسانية وفي كل العصور، وهذا ما جعل منه أيضا وبحق أول من اقتحم ميدان ما يسمى بتاريخ الحضارات أو التاريخ المقارن، إني أدخل الأسباب العامة في دراسة الوقائع الجزئية، وعندئذ أفهم تاريخ الجنس البشري في إطار شامل إني أبحث عن الأسباب والأصول للحوادث السياسية كذلك قوله داخلا من باب الأسباب على العموم على الأخبار الخصوص فاستوعب أخبار الخليقة استيعابا وأعطي الحوادث علة وأسبابا، وقد درس عبد الرحمن بن خلدون على يد العديد من العلماء، من بينهم أحمد بن إدريس الإيلولي، ويعتبر ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع أو علم العمران البشري وقد ذكر ابن خلدون في كتاب مقدمة ابن خلدون وهذا هو غرض هذا الكتاب الأول من تأليفنا وهو علم مستقل بنفسه موضوعه العمران البشري والاجتماع.

 

ويهدف إلى بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم وضعيا كان أم عقليا وأعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة غزير الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص، وكأنه علم مستبط النشأة، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة، وقد اعترف عدة علماء بابن خلدون باعتباره مؤسسا لعلم الاجتماع، منهم المستشرق ألفرد فن كريمر وعالم الاجتماع روبيرت فلين ولودفيغ جومبلوفيتش ومونيه وفرانز أوبنهايمر والفيلسوف الإسباني وعالم الاجتماع خوسيه أورتيجا إي جاسيت بل أن عالما الاجتماع هاورد سول بيكر وهاري بارنز في كتابهما الفكر الاجتماعي من التقاليد إلى العلم قالا بكونه أول من طبق الأفكار العلمية الحديثة في علم الاجتماع التاريخي، ولقد قاد المنهج التاريخي العلمي الذي اتبعه ابن خلدون للتوصل إلى علم الاجتماع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى