مقال

الدكروري يكتب عن الإمام ابن خلدون ” جزء 6″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام ابن خلدون ” جزء 6″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ونكمل الجزء السادس مع الإمام ابن خلدون، لعجز الإنسان عن تلبية جميع حاجاته مهما كانت قدرته بمفرده، حيث أن الصنائع في النوع الإنساني كثيرة بكثرة الأعمال المتداولة في العمران، فهي بحيث تشذ عن الحصر ولا يأخذها العد مثل الفلاحة والبناء والخياطة والنجارة والحياكة والتوليد والوراقة والطب، أما القيمة فهي في نظره وهي قيمة الأعمال البشرية فاعلم أن ما يفيد الإنسان ويقتنيه من المتمولات إن كان من الصنائع فالمفاد المقتنى منه قيمة عمله، إذ ليس هناك إلا العمل، مثل النجارة والحياكة معهما الخشب والغزل، إلا أن العمل فيهما أكثر فقيمته أكثر، وإن كان من غير الصنائع فلا بد في قيمة ذلك المفاد والقنية من دخول قيمة العمل الذي حصلت به، إذ لولا العمل لم تحصل قيمتها، فقد تبين أن المفادات والمكتسبات كلها إنما هي قيم الأعمال الإنسانية، ولم يغفل أيضا عن مقولة القيمة الزائدة.

 

وإن لم يعالجها بشكل معمق عند تعرضه لصاحب الجاه، وجميع ما شأنه أن تبذل فيه الأعواض من العمل يستعمل فيه الناس من غير عوض فتتوفر قيم تلك الأعمال عليه، فهو بين قيم للأعمال يكتسبها، وقيم أخرى تدعوه الضرورة إلى إخراجها، فتتوفر عليها، والأعمال لصاحب الجاه كبيرة، فتفيد الغني لأقرب وقت، ويزداد مع مرور الأيام يسارا وثروة، ومن كل ما تقدم نستطيع المجازفة والقول إن أعمال ابن خلدون وبالذات، ويرفض ابن خلدون تدخل الدولة المباشر في الإنتاج والتجارة لما يترتب عليه من أضرار اقتصادية، فهو يرى أن حاجة الدولة لتغطية نفقاتها المتزايدة تدفعها نحو هذا التدخل ولكن النتيجة حينئذ تكون بعكس القصد، ويكتب ابن خلدون فيقول اعلم أن الدولة إذا ضاقت جبايتها بما قدمناه من الترف وكثرة العوائد والنفقات وقصر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجاتها ونفقاتها.

 

واحتاجت إلى مزيد المال والجباية، فتارة توضع المكوس على بياعات الرعايا وأسواقهم كما قدمنا وتارة بالزيادة في ألقاب معدلات أسعار، المكوس إن كان قد استحدث من قبل، وتارة بمقاسمة العمال والجباة وامتكاك أي امتصاص عظامهم، لما يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان أو المحاسبون، وتارة باستحداث التجارة والفلاحة للسلطان على تسمية الجباية باسم الجباية، لما يرون التجار والفلاحين يحصلون على الفوائد والغلات مع يسارة أموالهم، وأن الأرباح تكون على نسبة رؤوس الأموال، فيأخذون في اكتساب الحيوان والنبات لاستغلاله في شراء البضائع والتعرض بها لحوالة الأسواق، ويحسبون ذلك من إدرار الجباية وتكثير الفوائد، غلط عظيم وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة، ومما تقدم يبين لنا أن مقدمة ابن خلدون تعتبر أول موسوعة في العلوم الإنسانية.

 

بل هي باكورة العمل الموسوعي العام قبل ظهور عصر الموسوعات بحوالي خمسة قرون، ويعتبر ابن خلدون من أوائل العلماء الذين أشاروا للشبه بين القردة والإنسان حيث يقول في مقدمته ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدرج آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات من الحشائش وما لا بذر له وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط، ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد القريب لأن يصير أول أفق الذي بعده، واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والرؤية، ترتفع إليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل، وكان ذلك أول أفق من الإنسان بعده.

 

وهذا غاية شهودنا، وكما يرى ابن خلدون في المقدمة أن الفلسفة من العلوم التي استحدثت مع انتشار العمران، وأنها كثيرة في المدن ويعرفها قائلا بأن قوما من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله، الحسي منه وما وراء الحسي، تدرك أدواته وأحواله، بأسبابها وعللها، بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل، وهؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف، وهو باللسان اليوناني محب الحكمة، فبحثوا عن ذلك وشمروا له وحوموا على إصابة الغرض منه ووضعوا قانونا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمنطق، ويحذر ابن خلدون الناظرين في هذا العلم من دراسته قبل الاطلاع على العلوم الشرعية من التفسير والفقه، فيقول وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى