مقال

الدكروري يكتب عن الوطنية في الإسلام ” جزء 3″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الوطنية في الإسلام ” جزء 3″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ومكث في المكان نفسه عدة أيام، وقبل أن يغادر وضع قبعته الشخصية على القبر وتركها تكريما وتقديرا لذلك الفلاح الجريء، وأمر قواته بأن تتجاوز تلك القرية ولا تدخلها أبدا، فأين نحن من تضحياتنا لوطننا؟ فالتضحية من أجل الوطن ليست مقتصرة على مواجهة العدو والموت في سبيل الوطن ورفع الشعارات، أين هؤلاء الذين يدّعون حب الوطن والوطنية وهم من ذلك براء؟ ولا ترى في أعمالهم وسلوكياتهم وكلامهم غير الخيانة والعبث بمقدراته، والعمالة لأعدائه، وتأجيج الفتن والصراعات بين أبنائه، ونشر الرذيلة ومحاربة الفضيلة، فإن واجبنا نحو التضحية من أجل وطننا أن يضحي كل فرد في المجتمع بحسب عمله ومسئوليته، فيضحي الطبيب من أجل حياة المريض، ويضحي المعلم من أجل تعليم وتنشئة الأولاد، ويضحي المهندس من أجل عمارة الوطن، ويضحي القاضي من أجل إقامة وتحقيق العدل.

 

ويضحي الداعية من أجل نشر الوعي والفكر الصحيح بين أفراد المجتمع وتصحيح المفاهيم المغلوطة والأفكار المنحرفة، وتضحي الدولة من أجل كفالة الشعب ورعايته، ويضحي الأب من أجل معيشة كريمة لأولاده، ويضحي الجندي من أجل الدفاع عن وطنه، ويضحي العامل من أجل إتقان عمله، وتضحي الأم من أجل تربية أولادها، وهكذا وإننا إذا فعلنا ذلك فإننا ننشد مجتمعا فاضلا متعاونا متكافلا تسوده روابط المحبة والإخلاص والبر والإحسان وجميع القيم الفاضلة، وها هو الخليل ابراهيم عليه السلام حين ترك زوجته هاجر وابنه اسماعيل عليه السلام فى مكة المكرمة وهى واد قاحل غير ذى زرع دعا ربه أن ييسر لهم أسباب الاستقرار ووسائل عمارة الديار، فقال الله تعالى فى كتابه الكريم فى سورة إبراهيم ما قاله الخليل إبراهيم عليه السلام ” ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ”

 

وهذا كليم الله موسى عليه السلام حنّ إلى وطنه بعد أن خرج منها مجبرا، فقال الله تعالى فى كتابه الكريم فى سورة الفصص ” فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا فقال لأهله امكثوا إنى آنست نارا لعلى آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ” وقال ابن العربي في أحكام القرآن، قال علماؤنا لما قضى نبى الله موسى الأجل طلب الرجوع إلى أهله وحنّ إلى وطنه وفي الرجوع إلى الأوطان تقتحم الأغرار وتركب الأخطار وتعلل الخواطر، ويقول لما طالت المدة لعله قد نسيت التهمة وبليت القصة، وها هو رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري، لما أخبر ورقة بن نوفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قومه، وهم قريش مخرجوه من مكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أومخرجيَّ هم؟ ” قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.

 

وقال السهيلي رحمه الله ” يؤخذ منه شدة مفارقة الوطن على النفس فإنه صلى الله عليه وسلم سمع قول ورقة أنهم يؤذونه ويكذبونه فلم يظهر منه انزعاج لذلك، فلما ذكر له الإخراج تحرّكت نفسه لحب الوطن وإلفه، فقال صلى الله عليه وسلم ” أومخرجي هم؟ ” أى بمعنى هم سيحرجونى من وطنى فأجاب له ورقه بن نوفل، أن نعم سوف يخرجوك من أرضك ووطنك، وقال الحافظ الذهبي، وهو من العلماء المدققين، مُعددا طائفة من محبوبات رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنه صلى الله عليه وسلم ” وكان يحب عائشة، ويحب أباها، ويحب أسامة، ويحب سبطيه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أحد، ويحب وطنه، وإن لتعلق النبي صلى الله عليه وسلم، بوطنه الذي نشأ وترعرع فيه ووفائه له وانتمائه إليه، فقد دعا ربه لما وصل المدينة أن يغرس فيه حبها فقال صلى الله عليه وسلم ” اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد” رواه البخاري ومسلم.

 

وقد استجاب الله تعالى دعاءه، فكان يحب المدينة حبا عظيما، وكان يسر عندما يرى معالمها التي تدل على قرب وصوله إليها، فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر، فأبصر درجات المدينة، أوضع ناقته أي أسرع بها وإن كانت دابة حركها ” فقال أبو عبدالله، زاد الحارث بن عمير عن حميد “حركها من حبها ” رواه البخاري، وإن حب الوطن من الإيمان، هي كلمة مأثورة حكيمة، جارية على ألسنة عامة الناس وخاصتهم من عقلاء ومفكرين، وحكماء ومثقفين، وهي بالنسبة للمسلم ذات معنى كبير، ومغزى عميق، ذلك أنها تعني أولا الوطن الذي ولد فيه آباء المرء وأجداده، وينتسبون إليه وينتمون أبا عن جد، وخلفا عن سلف، ويرتبطون بأرضه ارتباط الولاء والإخلاص والوفاء له، والتعلق به والجهاد في سبيله، والتضحية من أجله بكل نفيس وثمين طيلة قرون وأجيال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى