مقال

الدكروري يكتب عن الإمام الليث بن سعد ” جزء 3″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام الليث بن سعد ” جزء 3″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

كما أرجع المفكر المصري أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام سبب ضياع مذهب الليث إلى عدم اعتنائه بتدوين مذهبه في كتب، كما كان لليث بن سعد صلات حسنة مع حكام وخلفاء عصره، وكانوا يغدقون عليه بالهبات والعطايا إجلالا لمنزلته وقدره، فعظم ثراء الليث وكثر ماله، فهذا القلقشندي في صبح الأعشى يذكر أنه كانت لليث بن سعد ضيعة على مقربة من رشيد، يدخل عليه منها في كل سنة خمسون ألف دينار وقيل عشرون ألف دينار، ومع سعة رزق الليث، امتاز الليث بالجود والكرم، فكان ينفق دخله كله على الصلات والهبات للمحتاجين والسائلين، فيُروى أن امرأة جاءته فقالت يا أبا الحارث، إن ابنا لي عليل واشتهى عسلا، فقال يا غلام أعطها مرطا من عسل، والمرط عشرون ومائة رطل، وأن مالكا كتب إلى الليث يسأله أن يرسل إليه شيءا من عصفر لزواج ابنته، فبعث إليه الليث بثلاثين جملا من عصفر، فصبغ منه لابنته.

 

وباع منه بخمسمائة دينار، وبقي عنده فضلة، وغيرها من القصص المشهورة التي تناقلتها كتب السير والتراجم وكما قيل أنه لم تجب على الليث زكاة في ماله لسعة إنفاقه في أوجه الخير، ومن بينها شراء الأراضي من بيت المال في نواح من البلدان وحبّسها على وجوه البر، فكان ذلك أساسا لديوان الأحباس في مصر، وبلغ من جود الليث وكرمه أنه كانت تأتي عليه السنة أحيانا وعليه دين، كما حظي الليث بن سعد بمنزلة عظيمة عند الخلفاء الذين عاصروه وعرفوا قدره، فقد روى يحيى بن بكير أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور عرض على الليث أن يُوليه مصر، فاعتذر الليث بأنه على ذلك الأمر ضعيف كونه من الموالي، وروى شعيب بن الليث بن سعد عن أبيه قوله قال لي المنصور حين أردت أن أودعه قد سرني ما رأيت من سداد عقلك، فأبقى الله في الرعية أمثالك، وقال يعقوب بن داود وزير الخليفة العباسي أبو عبد الله المهدي.

 

أن المهدي أوصاه حين قدم الليث العراق بأن يلزمه، قائلا فقد ثبت عندي أنه لم يبقي أحد أعلم بما حمل منه، كما لجأ إليه هارون الرشيد حين أعضلته مسألة قسمه أي يمينه على امرأته زبيدة حين تناظرا في شيء من الأشياء، بأنها طالق إن لم يكن من أهل الجنة، مما اضطر الرشيد لأن يجمع الفقهاء ويسألهم عن هذه اليمين، فلم يجد منها مخرجا، فكتب إلى عماله في الولايات بأن يحملوا إليه الفقهاء من بلدانهم، ولم يجد في آرائهم ما أقنعه سوى رأي الليث حين جعل الرشيد يقرأ من سورة الرحمن حتى بلغ قوله تعالى ” ولمن خاف مقام ربه جنتان” فاستوقفه الليث، وسأله إنك يا أمير المؤمنين تخاف مقام الله؟ فقال هارون إني أخاف مقام الله، فقال الليث يا أمير المؤمنين، فهي جنتان وليست بجنة واحدة كما ذكر الله تعالى في كتابه، فوجد هارون في ذلك بر يمينه، وأمر لليث بالجوائز والخُلع وأقطعه أراض كثيرة بمصر.

 

كما كان ولاة مصر وقضاتها لا يقطعون أمرا دون مشورة الليث، وكان الليث قد خصص لهم جزء من وقت مجلسه لهذا الأمر، فكان الليث إن أنكر من القاضي أو الوالي أمرا كتب إلى الخليفة فيأتي أمر العزل، وقد حفظ الولاة لليث قدره منذ كان الليث شابا، فهذا الوليد بن رفاعة والي الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك على مصر حين حضرته الوفاة سنة مائة وسبعة عشر من الهجرة، يسند وصيته لابن عمه عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي، وإلى الليث بن سعد، والليث يومئذ ابن أربع وعشرين سنة، ولقد حق للمسلمين أن يحزنوا غير ملومين إذا ما طالعوا قول الإمام الشافعي عن الإمام الليث بن سعد، نصير الفقراء، وظهير الضعفاء، عزيز النفس، صافي الوجدان، للأسف الشديد، فإن الأمة أضاعت هذا الإمام الفقيه والمحدث الكريم، واسع العلم وشديد الهمة، سخي القلب والروح واليد.

 

ومازلنا نضيع هذا الفقيه العالم المصلح الحالم، تاركين أثره ومدرسته الفقهية الرفيعة لتغوص فى النسيان وتذبل عبر الأزمان، فبرغم شهرة الإمام الليث بن سعد الكبيرة لكن تلامذته لم يحفظوا أثره، حتى أن الإمام الشافعي الذى حاول أن يجمع من تراثه وآثاره قدر ما يستطيع عانى كثيرا فى سبيل هذا الغرض، كما عانى أيضا الأديب الكبير عبدالرحمن الشرقاوي وهو يجمع ما ورد عنه ليضمنه فى كتابه الأئمة التسعة من نفس المأساة التي عانى منها الإمام الشافعي وفى الحقيقة، لا يعرف الواحد كيف يندثر أثر رجل كهذا كانت له من المكانة ما جعلته مقصدا للعامة والخاصة والصفوة والملوك والفقراء والمساكين، وكيف لا يحتشد تلاميذ الإمام الليث وراءه ليدونوا كل ما يكتب مثلما فعل تلامذة أبي حنيفة ومالك والشافعي، والغريب أنه ما إن تأتي سيرة هذا الرجل إلا وأحيط بهالة من تفخيم وإجلال وإعجاب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى