مقال

تتعدد الهويات لدى كل شخص منا

جريدة الأضواء

تتعدد الهويات لدى كل شخص منا

كتب / يوسف المقوسي

تتراكم الانتماءات في كل مجتمع. وتتنوّع الصراعات. أساسها جميعاً هو الصراع الطبقي. هو الذي يشكّل على المدى الطويل تطوّر المجتمع. تتراكم فوقه الصراعات القومية والإثنية والعشائرية والطائفية. تشكّل هذه جميعاً في تراكمها التشكيلة الاجتماعية. تكون التحليلات الاجتماعية أحادية وناقصة ومنحرفة عندما ينحصر الواحد منها على الحزبية (انقسام المجتمع الى أحزاب وحركات) أو الزبائنية (التبعية لزعامات ووجاهات على أساس خدمات يقدمها هؤلاء) أو الإثنية (على أساس ولاءات ايديولوجية لانتماءات إثنية أو قومية أو حتى مناطقية، كأن يكون الواحد منا شمالياً أو جنوبياً أو غزاويا ولا يعترف إلا بواحدة منها). الانتماءات العائلية والعشائرية في فلسطين شديدة الأهمية؛ العائلية منها في كل فلسطين ، والعشائرية خاصة في الخليل ونابلس وبيت حانون الكثير من هذه الانتماءات متخيلة، كأن يعتقد الواحد أن العشيرة تمتد في قدمها الزمني الى أب واحد، أو كأن يعتقد أصحاب القومية العربية أن الأمة موجودة بالفعل وهي في حالة وجود فوقي بانتظار التجسّد في دولة واحدة. وأخطرها مفهوم الأمة الإسلامية، التي يعتبر أصحابها أن ما يوحّد الأمة هو الشريعة (رغما عن التعددية داخل الشريعة، والتناقضات الحادة في التفسيرات الدينية). كثيرا ما يخلط الباحثون وأهل السياسة بين الأمة العربية والأمة الإسلامية، رغما عن أن الأولى علمانية والثانية دينية التعددية في كل مجتمع، بما في ذلك فلسطين ومع أنها متخيلة، إلا أنها واقعية ولها أثر كبير في وعي وسلوك الأفراد.

 

في كل مجتمع، وداخل كل طائفة أو عشيرة أو إثنية، يشكّل الأغلبية طبقة من الفقراء الذين يستغلهم زعماء الطوائف والعشائر والإثنيات. الطبقة مشتركة بين الجماعات. ومن الخطأ أن يقتصر الكلام عن مكونات المجتمع على “المكونات”؛ التعبير الذي استخدم في العراق ويستخدم الآن في لبنان لأسباب مشبوهة. بدأ هذا الاستخدام للمكونات الطائفية مع الاحتلال الأميركي الذي جهد لتحويل العراق الى كونفيدرالية طوائف متناحرة. ولا شيء منع اللبنانيين من استخدام التعبير بسبب تجذّر الطائفية في بلدهم وبسبب إرادة أكباش الطوائف أن تبقى الطوائف من أجل استخدامها في الحرب الطائفية عند اللزوم. على كل حال، أن تاريخ لبنان الحديث هو حرب طائفية مستمرة وإن متقطّعة. وقد أريد صراحة أن يكون العراق شبيهاً بالنظام اللبناني. سن الاحتلال الأميركي الدستور على هذا الأساس. وقبل به العراق وصار عار الطائفية من سمات النظام العراقي الذي يعاني على الدوام مثل لبنان فراغاً في السلطة وتلاشياً للدولة. ما اعتبره العراقيون خلاصاً من الاستبداد، وهذا صحيح، حل مكانه استبداد أدهى، وهو استبداد الطوائف وأكباشها. تعددت الديكتاتوريات على يد الامبراطورية الأميركية. إذ كان فيتو كل طائفة يشكّل خرقاً للميثاقية، على اعتبار أن المجتمع والسلطة يتشكّل كل منهما من ميثاقية طائفية، وهي استبداد من نوع آخر. لكنه استبداد يفرّق المجتمع ويذرره بعد أن كان يوحده قسراً من قبل. الانتخابات في العراق ديمقراطية استبدادية كما في لبنان. تشتيت مفتعل وإن استخدم فيه التنوّع الطائفي الذي كان سائداً على الدوام. ليس بالضرورة أن يقود التنوّع الى التشتيت والتذرير. بل إلغاء السياسة واستبدالها بالميثاقية هو ما يقود الى التشتيت. الميثاقية رفع بالطائفية الى مستويات أعلى وأكثر تجذراً. وهي كما سبق القول نوع آخر من الطغيان.

المشترك في كل “مكونات” المجتمع، سواء كانت طوائف أو إثنيات أو غيرهما هو الطبقات الاجتماعية الأدنى. وهي الطبقات الفقيرة. هذه يحصل استغلالها بالقسر والإكراه في النظام الفيودالي (الاقطاعي) وبوسائل اقتصادية في النظام الرأسمالي. طبقة الفلاحين تلتزم بالتخلي عن الجزء الأكبر من إنتاجها بالقوة والقسر والإكراه. تنزع الأرض من الفلاحين في النظام الرأسمالي ويصبحون “أحراراً”. ينتقلون الى نظام جديد سمته العمل المأجور. يصبحون بروليتاريا يعملون بالأجرة لدى صاحب المعمل أو المزرعة أو مؤسسة الخدمات. وإذا لم يعملوا عملاً مأجوراً يفقدون مصدر رزقهم، فيعيشون على التسوّل أو ما هو أكثر إذلالاً. كان المتشردون يتعرضون للملاحقة، والسجن إذا قُبض عليهم دون مال في جيبهم. قوانين ملاحقة المتشردين ما زالت موجودة في الغرب الرأسمالي، وإن كان لا يعمل بها (إلا عند الضرورة) .

النظام “الريعي” في الوطن العربي هو نظام الاقتصاد الحر الذي تمتنع فيه الرأسمالية عن الاستثمار في أعمال منتجة. كانت الرأسمالية وما تزال تفضّل الاعتماد على فوائد المال، والتمييز بين الريع والفائدة. والربح مفتعل وكاذب. كل اقتطاع لفائض القيمة، أي لجزء من نتاج عمل الفقراء هو ريع حتى ولو كانوا يعملون في مصنع أو مزرعة. الفرق أن الرأسمالية العربية لم تفضّل الأعمال المنتجة. كانت، وما تزال، تفضيلها للفائدة، كما كان تفضيل الاقطاعيين (للريع) من قبل، وكما هو الربح الذي تجنيه شركات الخدمات. لذلك نرى بداية نقاش واسع في الغرب الرأسمالي، ولدى الماركسيين، حول عودة الفيودالية (الاقطاعية) بوسائل أخرى. شركات التواصل الاجتماعي لا تنتج شيئاً سوى أنها تترك مستخدمي الخلوي والانترنت يتواصلون، بين المتّصِل والمتّصَل به في منصة رقمية، يجني من ريعها أصحابها مبالغ هائلة. هؤلاء أصبحوا أصحاب ثروات هائلة، فيما الذهب الأسود لا فائدة منه تعود للمواطن العربي .

 

للرأسمالية فنون في استخدام الطبقات الفقيرة ضد نفسها. الاستغلال في مكان العمل، يضاف إليه وجوب العمل بالسخرة في المجالات الأخرى الإثنية والحزبية وأخواتهما. لهذا تتجدد الفيودالية (أو ما يسمى الاقطاع ) في داخل الرأسمالية.

كما أن الطبقة وحدها لا تكفي كأداة لفهم المجتمع، كذلك فإن تعاقب أنماط الإنتاج لا يكفي وحده لفهم تطوّر التاريخ الاجتماعي. أعطتنا الماركسية بكل براعة وذكاء أساساً للتحليل لفهم المجتمع وتطوره. لكن علينا استخدام وسائل إضافية للإحاطة بالمجتمع وفهم آليات عمله.

 

ما تغيّر جذرياً هو الرأسمالية التي بدلت واجهتها الايديولوجية . لم تعد الرأسمالية تحتاج الى تقديم تنازلات للطبقات الفقيرة وما يسمى “دولة الرفاه”، وخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وزوال المنافسة حول اكتساب الطبقات الدنيا. فكان أن دمرت الطبقة العاملة بقتل قادتها ونقل صناعات كثيرة الى أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، حيث الأيدي العاملة رخيصة، وحيث حكومات الاستبداد جاهزة لقمع الطبقة العاملة وبقية فئات الفقراء الأخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى