مقال

الدكروري يكتب عن الإمام ابن عصفور” جزء 2″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام ابن عصفور” جزء 2″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

فكان كما يقول مترجموه، حامل لواء العربية في زمانه بالأندلس ولكن لم يكن عنده ما يؤخذ عنه غير النحو، ولا تأهل لغيره من علوم العربية، واتصل ابن عصفور بأمراء زمانه، فكان يخدم الأمير عبد الله بن محمد ابن أبي بكر الهتناني، وألف ابن عصفور الإشبيلي كتابه المشهور في النحو، وهو كتاب المقرب، بإشارة من الأمير أبي زكريا يحيى بن أبي محمد عبد الواحد بن أبي بكر، كما ألف كتابه الضرائر بإشارة من الخليفة المستنصر بالله، كما أشار هو في مقدمته، وعلى علو قدر ابن عصفور ومكانته في العلم لم يكن بذي ورع، فقد ذكر أنه جلس في مجلس شراب فلم يزل يرجم بالنارنج إلى أن مات، وقد انتقل ذكر ابن عصفور إلى المغرب، فودع الأندلس وجاز إلى المغرب، يقيم في حواضره ويملي مصنفاته، ثم انتقل إلى تونس حيث حضي بإكرام المستنصر بالله محمد بن أبي زكرياء الحفصي، واصطحبه في رحلاته ومجالسه.

 

يشجعه على الإقراء والتعليم ثم عاد إلى الأندلس لفترة رجع بعدها إلى مراكش ومنها إلى الحاضرة التونسية بحيث أقام فيها إلى أن وافته المنية فدفن في مقبرة ابن مهنا قرب جبانة الشيخ ابن نفيس، وأن ابن عصفور كان حامل لواء العربية في عصره، وأصبر الناس على المطالعة ولا يمل من ذلك ولازم ابن عصفور رئيس نحاة الأندلس أبا علي الشّلوبين عمر بن محمد الأزدي، ولازمه عشر سنين، وقرأ عليه كتاب سيبويه، وجاء في مقدمة كتاب الممتع الكبير عن ابن عصفور أنه وجه أندلسي مشرق، يقرب إلينا بالأسلوب الممتع، والعرض المبسط، والمعالجة اليسيرة، والنفس الأندلسي اللطيف، ما توضع في علم التصريف، من تجريد بعيد، وخشونة مصطنعة، وتعقيد ثقيل، فهو يتخطى تاريخ عصره، ويكون مقدمة للوضوح والبيان والتيسير ونستشف من مقدمة كتاب الممتع الكبير إشكالية عميقة تتعلق بتيسير العلم وبسطه منهجيا بحيث يكون أكثر سلاسة وإفادة.

 

فقد انصب في علم التصريف عشرات من الكتب، تعالج موضوعه ومواده بمختلف الوسائل والأساليب، فكان منها حتى القرن السابع زاد وافر، يزخر بالمتون المجففة الضنينة العطاء، والشروح المطولة البعيدة المنال، والحواشي والتقييدات المتداخلة، حتى وصف هذا العلم بأنه أعسر من الإعراب، وأضيق سبيلا على المرتادين وعندما تناول ابن عصفور هذا الميدان العلمي، استطاع أن ينفحه بأنفاسه الأندلسية، ويصبغه بألوان البساطة والسلاسة والصفاء، ليقربه إلى النفوس والعقول فقد استوفى جمهور المادة الصرفية، مما يحتاج إليه كل دارس أو باحث أو مؤلف، وعرضه بأسلوب تعليمي ميسر، يقيم حوارا وديا بينه وبين قارئيه، ويشركهم في صياغة النتائج والمعلومات، ويوظف ما في نفوسهم من تساؤلات ومشكلات، تتعلق بالموضوع وعناصره ومبادئه وقواعده، لذلك كله أعجب به العلماء، حتى إن أبا حيان النحوي كان يلازمه في جميع أسفاره.

 

ويجمع منه النسخ المختلفة، وتجدر الإشارة إلى أن كتاب الممتع الكبير في التصريف، كتب وتبلور واستوى على سوقه على فترات، بحيث عمل ابن عصفور على تنمية مادته العلمية، وصقله وتهذيبه وإضافة الحواشي المفيدة عليه إلى أن وافته المنية، فتلقفه العلامة أبو حيان النحوي غضا طريا، وقد افتتن به أيما افتتان، وأدرك قوته وبعد غوره ومقاصده وحلاه بالممتع الكبير، وهو كذلك بلا مراء، وتضاربت الروايات وآراء المؤرخين والعلماء الذين ترجموا له، حول الصورة التي مات عليها، وحتى السنة التي توفي فيها وذكر صاحب فوات الوفيات كان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يدعي أنه لم يزل يرجم بالنارنج في مجلس الشراب إلى أن مات، وذلك في سنة تسع وستين وستمائة وتابعه في ذلك السيوطي، والصفدي، والذهبي وغيرهم في تحديد الحالة التي مات عليها، واختلف الرواة في تحديد سنة وفاته، فقيل في الرابع والعشرين من ذي القعدة.

 

سنة ستمائة وثلاث وستين من الهجرة، ولكن أغلب المصادر حددتها في سنة ستمائة وتسع وستين من الهجرة، وتوفي ابن عصفور بالحاضرة التونسية، وقد اختلف في سبب وفاته إلا أن محقق كتاب الممتع الكبير يفيدنا نقلا عن الزركشي أن ابن عصفور كان في مجلس السلطان، في أحد أيام الشتاء، في رياض أبي فهر قرب الجابية الكبيرة ولما افتخر السلطان بما في مملكته من مظاهر العظمة قال ابن عصفور يُذكرّه فضل العلماء في ذلك بنا وبأمثالنا، فغضب السلطان فأمر بعض رجاله أن يلقوه بثيابه في الجابية وبعد خروجه منها أصابته حمى شديدة، لبث فيها ثلاثة أيام قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وقد رثاه القاضي ابن المنير المالكي ببيتين طريفين ادعى فيهما أن النحو انتهى بموت ابن عصفور يقول فيهما رحم الله بن عصفور وجازاه عن الإنسانية خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى