ثقافة

فلسفة الجنس والجنسانية

جريدة الأضواء

 

فلسفة الجنس والجنسانية

كتب / يوسف المقوسي

ما هو مثير في الجنس هو وجوده خارج الأمور العادية طيلة التاريخ، لم يُعتبر قط كنشاط عادي يُمارَس خارج الاعتبارات الأخلاقية. حيث كان ولا يزال موضوع الخلافات العظمى والجوهرية.
يُمثِّل الجنس حالة غريبة في تاريخ التحريم والتقديس، كأنه من المحال أن يؤخذ الجنس دون شروط و ملاحظات مسبقة. كما يقع الجنس غالباً على التخوم الفاصلة بين الرؤى والمذاهب والتوجهات الفكرية والدينية والسياسية.

كان الجنس قديماً كواهِب الكينونة تارةً، ومُفسدها تارةً أخرى. حيث نجد شعوباً قد قامت بتقديس الجنس وبناء المعابد للأعضاء التناسلية، ونجده لدى شعوب أخرى وهو في خانة الشر الكبير.
منذ القِدم وإلى الآن وجدلية التحريم والتقديس مستمرة، ففي عالمنا اليوم هناك معسكرين:
١ – المعسكر الذي يجد في الجنس وسيلة للانجاب والتكاثر وممارسته تكون ضمن شروط وتحديدات دينية.
٢ – المعسكر الآخر يرى في الجنس حق شخصي يحدده الفرد بإرادته الحرة، بل ويمثل ركناً رئيساً في الحداثة.

– تقتضي ضرورة التوضيح أن نفرِّق بين الجنس كموضوع رئيس في الفلسفة وبين الجنس كعنصر من عناصر الحياة الزوجية.

1️⃣ الحضارة الإغريقية

نجد في فلسفة ما قبل سقراط بعض الإشارات إلى الجنس ضمن قالب العلاقة الزوجية كما هو الحال مع “فيثاغورس” و”أرخميدس” وبعض السفسطائيين، لكنهم لم يتطرقوا إليه كمسألة فلسفية بحتة.
بدأ “أفلاطون” يفلسف الجنس في محاورتي الندوة وفيدروس، ووصفه بأنه شغف قوي لامتلاك ما هو خير وجميل. أما تلميذه “أرسطوطاليس” لم يحسن الحديث عن أيروس بشكل مستقل، واكتفى بضمه إلى موضوع الفضيلة والعفة في كتابه (الأخلاق النيقوماخية).

2️⃣ العصر الهيلنستي

وفي العصر الهيلنستي، كانت ثمة مدرستين: الأبيقورية والرواقية. تصنِّف الأبيقورية الجنس ضمن الرغبات الطبيعية غير الضرورية، بحيث يجب إشباعها بشكل معتدل دون أن تسيطر تلك الرغبات على الإنسان.
أما الرواقية لم تجد في الجنس ما هو ضروري، لذا فضَّلت الحب النقي والصداقة على النشاط الجنسي.

3️⃣ العصور الوسطى

أما في العصور المظلمة حسب تعبير فرانشيسكو بتراركا، يصف القديس “أوغسطين” الجنس كغواية وشر عظيم، ويدعو إلى عدم ممارسة الجنس إلا بهدف الإنجاب لأن الأطفال هم الثمرة الوحيدة المهمة للنشاط الجنسي.
ولدى “الأكويني” الجنس وسيلة طبيعية للتكاثر داخل إطار زواج شرعي، وكل نشاط جنسي آخر يعتبر رذيلة وضد إرادة الله.

4️⃣ عصر النهضة

حرر الفن الجسد من الاتهامات الدينية وارتفع به إلى فضاءات أيروتيكية وجمالية مختلفة، بحيث صار للجسد العاري نوعاً من الفضيلة. ولم يكن الفن يُمارَس بمعزل عن الدين، إنما في بيوت الدين نفسها، لذا نجد بدايات تصوير ونحت الأجساد العارية في الكنيسة. حيث تم تصويرالمسيح والأنبياء والقديسين على جدران الكنائس.
ومع بداية من القرن السادس عشر صار الجنس يشكل موضوعًا ذو شأن في الخطاب الفلسفي، ناقش “ميشيل دي مونتين” النشاط الجنسي في كتابه( قوة الخيال ).
كما ذكر “ديكارت” في (عواطف الروح)، و”ديفد هيوم” في رائعته (مقال في الطبيعة البشرية) أن العلاقة الجنسية تتكون من ثلاثة عناصر متنافرة: اللطف والشهوة والاستجابة الجمالية.

5️⃣ عصر التنوير

ناقش “روسو” الموضوع في سياق حياته في كتاب “الاعترافات” بينما وصف “كانط” الجنس كرغبة شريرة ومدمرة للطبيعة البشرية. بينما حرر “ماركيز دي ساد” الجنس من كل القيود الممكنة وأباحه بشكل عام.
ودافع “جون ستيورات ميل” عن تعدد الزوجات والحرية الجنسية. بيد أن نيتشه لم يبالِ بموضوع الجنس كثيراً، بل انتقد الحرية الجنسية لكونها تفسد طبيعة الإنسان.

6️⃣ القرن العشرين

كانت كتابات “فرويد” الأكثر جرأة في مجال الجنس، واعتبره الحجر الأساس في بناء الشخصية. أما “برتراند راسل” كان أقرب في بداية كتاباته إلى ستيورات ميل، وفي النهاية لم يكن مع الممارسات الجنسية خارج الزواج.
أما “سارتر” ربط بين حرية الآخر والجنس. ولكن العلاقة الجنسية وفقاً لسارتر تنتهي بالسادية وبالتالي النشاط الجنسي يكون بمثابة انتهاك حرية الآخر.
أما “ميشيل فوكو” كان الأكثر إثارة للجدل، فقد ربط بين الجنس والسلطة. وميز بين الجنس والجنسانية وفقًا للسياق الذي تجد فيه السلطة نفسها، ففرق بين التجارب الثلاث في تطور موضوع الجنس.

في اليونان القديمة كانت تجربة الجنس هي تجربة الذات. وفي المسيحية كانت تجربة الجسد، وفي الغرب ظهرت التجربة الجنسانية ما بين القرن السابع عشر والتاسع عشر. في حين وصف “بول ريكور” الجنس بأنه نهر الحياة.

( الميتافيزيقيا المُعادية للجنس )

تدَّعي الميتافيزيقيا المتشائمة بأن الشخص الذي يرغب جنسياً بشخص آخر، يجعل من ذاك الشخص موضوعاً للجنس قبل وأثناء النشاط الجنسي.
يقول كانط في (المحاضرات الأخلاقية): ” يُحول الجنس المحبوب إلى موضوع للشهية وهذا بحد ذاته يعد تدميرًا للطبيعة البشرية”. ويُقام هذا الادعاء على أن الوجود الإنساني سامٍ، أو على حد تعبير كانط غاية – لا وسيلة.

حين يتحول الإنسان إلى موضوع يصبح كأي شيء آخر، بحيث يجوز ممارسة الكثير من الخداع للوصول إليه. وبعد قضاء الحاجة الجنسية، يصبح المحبوب شيئاً مستهلَكاً يمكن الاستغناء عنه.
فيصف “برنارد بريم” الأمر: “التفاعل الجنسي هو في الأساس تلاعب جسدي وعاطفي ونفسي وحتى عقلي”.إن هذا التفاعل يعد انتهاكاً بحق ذات الآخر، وذلك لأن الجوانب الجنسية منه تكون هدفاً لرغبتنا مع إهمال كل جانب آخر.
وهنا يقول كانط: “الجنس ليس ميل إنسان نحو إنسان آخر، بل فقط نحو جنس الآخر، أي الجانب الجنسي وحده يكون موضوع الرغبة”. علاوة على ذلك، يفقد الطرفين شخصيتهما، وذلك لأن الطرف الأول يفقد إرادته بخضوعه لرغبته الجنسية وبالتالي يستهدف الطرف الآخر إلى أن يفقد هو بدوره شخصيته إلى حد الاستهلاك.

يذهب كانط بعيداً في هذا الاتجاه ويقول: “إذا كان الرجل يريد اشباع رغبته، وتريد المرأة اشباع رغبتها؛ يثير كل منهما رغبة الآخر، وهنا تتلاقي ميولهما، لكن الهدف ليس الطبيعة البشرية، إنما الجنس، فيذهب كل منهما إلى افساد طبيعة الآخر البشرية، ويجعلان من الإنسانية أداة لإشباع شهواتهما وميولهما، وبالتالي ينزلان بالإنسان إلى مستوى الطبيعة الحيوانية”.

( الميتافيزقيا الداعمة للجنس )

تفترض الميتافيزيقيا المتفائلة أن الجنس هو آلية ترابط، تجمع الناس معاً بشكل طبيعي جنسياً ولا جنسياً في نفس الوقت.
ويتضمن النشاط الجنسي إرضاء الذات والآخر، ويولد تبادل المتعة كلاً من الامتنان والمودة، والتي بدورها تعمّق العلاقات الإنسانية وتجعلها أكثر جوهرية عاطفياً.
كما يرى هذا الاتجاه في الجنس أكثر من مجرد جماع بين زوجين، بل يمثل الجنس قيمة كونية حتى خارج الزواج ودون أن يكون الهدف هو الإنجاب، وهنا يدافع راسل عن الجنس بأنه يحافظ على كرامة الإنسان وطبيعته.
ويبين بول ريكور بأنه “حين يتعانق كائنان، هما لا يعرفان ماذا يفعلان، لا يعرفان ماذا يريدان، لا يعرفان عما يبحثان، لا يعرفان ماذا يجدان…الجنس بلا معنى لكنه يمتاز بكونه يعيد ربط الكائن البشري بقوة كونية“. ويضيف “أن الحياة وحدها بعينها كونية، كلية لدى الكل، وأن شأن البهجة الجنسية أن تجعلنا نشارك في هذا اللغز”.
الخلاصة /في البداية اتخذ الجنس موقعًا خاصاً في الخطاب الأسطوري للحضارات القديمة، ومع بداية التفلسف اليوناني تحول إلى موضوع خاص لمناقشات عقلية.
وفي العصور المظلمة استسلم للنقاش اللاهوتي والحكم الكنسي. ومع عصر النهضة أصبح الجنس موضوعاً فنياً في السياقات الجمالية، إلى أن أصبح مسألة من مسائل الفلسفة من جديد ابتداءً من القرن السادس عشر.
و بات له مكانة في الحقل العلمي مع فرويد. ومع بروز الحركات النسوية والمثلية وتطور البحوث السيكولوجية والاجتماعية والانتروبولوجية وحتى الفزيولوجية في موضوع الجنس، أصبح للجنس مكانة مختلفة في الخطاب الفلسفي وحتى الديني.

لكن الإشكال الجنسي سيظل قائمَاً في الخطاب الإنساني نظراً لما يحمله من قيمة في صنع السرديات الحداثية أو في خلق جدالات أخلاقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى