مقال

ماذا عن طالوت وجالوت ” الجزء الخامس “

ماذا عن طالوت وجالوت ” الجزء الخامس “

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

ونكمل الجزء الخامس مع قصة طالوت وجالوت، وقد توقفنا مع نبى الله داود عليه السلام وهو غلام، وكان ذلك الغلام هو داود عليه السلام، وكان مع حداثة سنه وضيء الطلعة، أبلج الغرة، متسعر الذكاء، له قلب متوقد بين الجوانح، سار مع إخوته إلى ساحة القتال، حتى وجد رجلا راعه أنه عملاق طاغية يتحدى، ولكن الشجعان تخشاه، فسأل عنه فقيل له هذا جالوت رئيس الأعداء وزعيمهم، وما برز إليه شخص إلا ردّه جريحا، وقد جعل طالوت جزاء لمن يقتله ويقي المؤمنين كيده وشره أن يزوجه إحدى بناته ويوليه الملك من بعده، فثارت الحفيظة في نفس داود، وهاجت الحمية في قلبه، فذهب إلى طالوت وطلب منه الإذن في منازلة جالوت، لعل مصرعه يكون بيديه، فاستصغر طالوت شأنه، وخاف عليه وطلب إليه أن يترك الأمر لمن عساه أن يكون أكبر سنا وأقوى جسما وأمضى عزما وأجمع قلبا، ولكن قال داود لا يخدعنك ما تراه من صغر سني، عن حرارة الإيمان التي تجيش في صدري، ونار الحنق التي تلتهب في قلبي، ولقد هجم بالأمس القريب أسد على غنم أبي فعدوت وراءه حتى أصبته فقتلته، وصادفني دب فنازلته ثم أرديته، والعبرة بقوة النفس لا بكبر السن، وبمضاء العزم لا بضخامة الجسم، ورأى طالوت في لهجته الصدق والحزم والعزم في نيته فقال له دونك ما تريد والله حافظك وهاديك، ثم ألبسه ثيابه وقلده سيفه وتوجه خوذة فوق رأسه، ولكن داود لم يكن قد لبس الدرع ولا عالج السيف، فناء بما حمل، وثقل عليه ما اشتمل، فخلع كل ذلك واحتمل عصاه واحتقب مقلاعه.

ماذا عن طالوت وجالوت ” الجزء الخامس “

واصطحب أحجارا ملسا وتهيأ للخروج، فقال له طالوت كيف القتال بالحبل والمقلاع وهذا مقام السيف والنشاب؟ قال داود إن الله الذي حماني من أنياب الدب ومخالب السبع سيمنع عني بلا شك ما يريد لي هذا الطاغية من كيد أو نكال، وخرج داود في حزم وفي أمنع حرز وهو صدق الإيمان، ورآه جالوت فاحتقره وهزئ به وقال ما هذه العصا التي تحملها؟ أكلب تطارده أم غلام مثلك تناجزه؟ أين سيفك وترسك؟ وأين سلاحك وعدتك؟ يخيل إليّ أنك كرهت حياتك وسئمت عيشك مع أنك لا تزال حديث السن ولم تحتمل بعد تكاليف العيش ولا نصب الحياة، فقال ادن مني، فإنه بعد لحظة ستسيل نفسك وتطوى صحيفة عمرك، وأقدمك لحما طريا لوحوش البرية وطيور السماء، قال داود لك درعك وترسك وسيفك ونشابك، أما أنا فإني أتيتك باسم الله إله بني إسرائيل الذين أذللتهم وأخضعتهم، وسترى عما قريب أهو السيف الذي يصرع ويقتل أم هي إرادة الله وقوته، ومد يده إلى كتفه وأخرج الحجر، ووضعه في المقلاع وسدده نحو جالوت، فإذا هو مشجوج الرأس سائل الدم مثخن الجراح، ثم قفاه بحجر وحجر حتى خر صريعا على اليدين والفم، وارتفعت راية النصر وانكسرت بعد جالوت شوكة العدو، وولوا منهزمين يتبعهم المؤمنون ضربا وطعنا وتقتيلا، وثأروا لأنفسهم واستردوا عزهم الذاهب ومجدهم التليد، وهكذا كان نبى الله داود رجلا مؤمنا بالله، وكان يعلم أن الإيمان بالله هو القوة الحقيقية في هذا الكون التي يُهزم بها الأعداء ، وأن العبرة ليست بكثرة العدد والسلاح، ولا بضخامة الأجسام.

ماذا عن طالوت وجالوت ” الجزء الخامس “

وكان الملك طالوت قد وعد المقاتلين من بن اسرائيل أن من يقتل جالوت يصير قائدا على الجيش ويتزوج ابنتي، ولم يكن داود يهتم بهذا كثيرا، ولم يكن يأبه لهذا الإغراء، بل كان يريد أن يقتل جالوت لأن جالوت رجل جبار وظالم وعدو لله، وهنا سمح الملك لداود أن يبارز جالوت، وتوجه الجميع بالدعاء والتضرع إلى الله أن ينصرهم على عدوهم، وتقدم داود بعصاه الصغيرة التي يرعى بها غنمه، ومعه خمسة أحجار ومقلاعه وهو نبلة يستخدمها الرعاة، وتقدم جالوت وهو مدجج بالسلاح والدروع، فسخر جالوت من داود، وأهانه وضحك منه ومن فقره وضعفه وسلاحه، وهنا وضع داود حجرا قويا في مقلاعه، وطوح به في الهواء وهو يقول باسم الله، الله أكبر، وأطلق الحجر، فكانت المفاجأة فقد أصاب الحجر جالوت بإذن الله فقتله، وبدأت المعركة بين الجيشين بعد أن فقد العدو قائده جالوت، وانتصر جيش بني إسرائيل بقيادة طالوت على جيش جالوت، فإنها سنة من سنن الله في خلقه، ألا وهي سنة الدفع والمدافعة فماذا لو لم يتم قتل جالوت؟ هذا الكافر العنيد المتجبر الظالم؟ لو لم يقتل سيفتن المؤمنين، وسينشر الفساد في الأرض، نعم، إن فضل الله على العالمين عظيم وعظيم جدا، إذ لو لم يشرع قتال الظلمة والمشركين لفسدت الأرض باستعلاء الكفر وانتشار الظلم، والله تعالى لا يرضى بالظلم، بل شرع دفع الظلم ومقاومة الظالمين لمنع ظلمهم، وتقليم أظفارهم، والأخذ على أيديهم كيلا يتمادوا في ظلمهم فيعمّ الفساد الأرض، فلا بد من مقاومة الفساد وإزالته من أجل إصلاح الحياة لجميع البشر مؤمنين وغير مؤمنين.

ماذا عن طالوت وجالوت ” الجزء الخامس “

وهكذا أصبح داود عليه السلم ملكا، واختاره الله تعالى نبيا لبني إسرائيل، فجمع الله تعالى على يديه النبوة والملك مرة أخرى، وقد كان لأحداث هذه القصة تأثير في نفوس المسلمين، فحينما قص عليهم القرآن قصة فئة مؤمنة مرت بها ظروف وأحداث كالتي يمرون بها، ثم كان عاقبتها النصر والغلبة، فكان لقرب نزولها من أحداث غزوة بدر ومقدماتها وقع وتثبيت لقلوب المؤمنين، والأمل في النصر، وكان ذلك بمثابة تهيئة وتعبئة نفسية ومعنوية قبيل غزوة بدر، وأن الله يؤتي ملكه من يشاء، وهو سبحانه المتصرف في ملكه، ويختار من عباده من يشاء والله واسع عليم، وفي هذا تعليم لكل مسلم أن عطاءات الله لا يملكها إلا هو، ولذلك لا فضل لأحد على أحد، فما علينا إلا أن نستشعر هذا المعنى حتى تعيش القلوب في راحة وطمأنينة، وأن الله ذكر لنا صفات الحاكم الصالح وذلك عندما تحدثت الآيات عن طالوت وأن الله عز وجل أعطاه بسطة في العلم والجسم، وهكذا يكون الحاكم الصالح، فلابد أن تتوافر فيه مؤهلات تؤهله للحكم وقيادة المسيرة، وأن الابتلاء سنة إلهية، فحين خرج طالوت مع بني إسرائيل، فقد تعرض لابتلاءات ومواقف اختبار، قد غربلت جيش طالوت، وهنا برزت الفئة المؤمنة القليلة المختارة, ذات الموازين الربانية, والابتلاء صفة من صفات المؤمنين والصبر عليه خلق من أخلاقهم، وقد أخبرنا ربنا سبحانه وتعالى بهذا الابتلاء في آيات كثيرة، وأن هذه القصة أظهرت طبيعة اليهود واعتراضهم على أمر الله تعالى ومن ثم أمر نبيه، وطلباتهم المتكررة، وأن النصر يأتي بعد الصبر والثبات والتحمل.

ماذا عن طالوت وجالوت ” الجزء الخامس “

وقبلها إخلاص النية لله تعالى، فقال ابن كثيررحمه الله كان بنو إسرائيل على طريق الاستقامة مدة من الزمان، ثم أحدثوا الأحداث، وعبد بعضهم الأصنام، ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويقيمهم على التوراة، إلى أن فعلوا ما فعلوا، فسلط الله عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا خلقا كثيرا، وأخذوا منهم بلادا كثيرة، بل واستلبوا منهم التابوت الذي هو موروث نبى الله موسى، وأخذوا التوراة من أيديهم ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل، وبعد زمن طويل انتفضت فيهم العقيدة من جديد، فطلبوا من نبي لهم أن يختار لهم ملكا يقودهم إلى المعركة مع أعداء دينهم، الذين سلبوا ملكهم وأموالهم ومعها موروثات أنبيائهم من أل موسى وآل هارون، وهكذا كان نبى الله داود كان فتا صغيرا من بني إسرائيل، وجالوت كان ملكا قويا وقائدا مخوفا، ولكن أراد الله تعالى أن يجعل مصرع ذلك الجبار الغشوم على يد فتى صغير ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف ضعاف يغلبهم الفتية الضغار حين يشاء الله أن يقتلهم، وقد قال ابن كثير رحمه الله “وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته، ويشركه في أمره، فوفّى له، ثم آل المُلك إلى داود وورثه ابنه سليمان، وكان ذلك العهد هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل، جزاء انتفاضة العقيدة في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود” وبمثل تلك الفئة ينتصر المؤمنون، تلك الفئة التي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين، إنما في يد الله وحده.

ماذا عن طالوت وجالوت ” الجزء الخامس “

فتطلب منه النصر، وتناله من اليد التي تملكه وتعطيه، وهكذا تتغير التصورات والموازين للأمور عند الاتصال بالله تعالى حقا، وهكذا يثبت أن التعامل مع وعد الله عز وجل الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون، وإن القصص التي قصّها الله تعالى علينا في كتابه الكريم لم تذكر للتسلية والمتعة، وإنما ذكرت للعظة والعبرة والانتفاع منها بما يقرب الناس إلى ربهم سبحانه وتعالى ويستلهمون منها طريق النجاة، فبالقصص القرآنية يعظ الله تعالى بها عباده ويذكر ويحذر وينذر ويرغب ويبشر ويحرك الوجدان ويثير المشاعر في نفوس العباد ويوقظهم من غفلتهم عن الآخرة ويفيقهم من سكرات الدنيا وزينتها، وصدق الله إذ قال ” وذكرهم بأيام الله ” ومن تلك القصص العظيمة، ما قصه سبحانه وتعالى علينا في ثنايا سورة البقرة، وهذه قصة الملأ من بني إسرائيل وهم الأشراف والرؤساء، وخص الملأ بالذكر، لأنهم في العادة هم الذين يبحثون عن مصالحهم ليتفقوا فيتبعهم غيرهم على ما يرونه، ولقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يقول “كان بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي” وهذا يدل على أن أعظم أمة من الأمم إرسالا للنبوة هم بنو إسرائيل، والله عز وجل خصهم بأنبياء لم يخص قوما غيرهم، ومع هذا فهم يؤثرون الضلال، ويؤثرون الحيرة والتيه، بل هم الذين فعلوا بأنبيائهم الأفاعيل، أقاموا عليهم فقتلوهم وضربوهم وآذوهم.

ماذا عن طالوت وجالوت ” الجزء الخامس “

بل وحملوهم على الهجرة من بلاد إلى بلاد أخرى، فعلوا ما لم تفعل أمة بنبيها، وهذا منتهى الفساد في الأرض، فمحاربة الأنبياء والمرسلين إنما هي فرع عن محاربة الله تبارك وتعالى، وقد ذكر الله عز وجل قصصا لبني إسرائيل في القرآن الكريم، وما أكثرها، نجتزئ منها هذ القصة لنأخذ منها العبرة والعظة، وإن هذه القصة فيها عبرة عظيمة جدا، فهي تحكي واقع المسلمين اليوم، فقوله صلى الله عليه وسلم “كان بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء” أي يرسل الله تبارك وتعالى في بني إسرائيل نبيا تلو نبي، بل ربما أرسل عدة أنبياء في وقت واحد، وفي مكان واحد، كما أرسل إلى بني إسرائيل موسى وهارون عليهما السلام، وكما أرسل إلى بني إسرائيل داود وسليمان عليهما السلام، وغير ذلك من الأنبياء، فالله عز وجل كان يرسل العدد من الأنبياء في بني إسرائيل في الوقت الواحد، للقيام بأعمال بني إسرائيل، وهدايتهم إلى الطريق المستقيم، والدلالة على الله عز وجل، ولكنهم أعرضوا وجحدوا في كل مرة، ومع كل نبي، وقال وهب بن منبه عليه رحمة الله، كانت بنو إسرائيل فترة من الزمان على الطريق المستقيم، وعلى تعاليم نبى الله موسى عليه السلام، حتى فعلوا فعلتهم المنكرة، ولم يذكر أي فعلة منكرة، وفعالهم المنكرة لا تكاد تقع تحت حصر، ولكنهم لعلهم ارتكبوا فعلة عظيمة أعظم من كل ما يمكن أن نتصوره، فضرب الله عز وجل عليهم الذلة والهوان، وكانوا من قبل لا يحاربون جيشا إلا غلبوهم وانتصروا عليهم، ولكنهم لما فعلوا فعلتهم، ما قام عليهم أحد إلا قتلهم، حتى شردهم ملك ظالم من ملوك المشركين في الأرض شرقا وغربا، ثم اجتمعوا في أرض فلسطين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى