مقال

فى طريق النور ومع اليتيم ” الجزء السابع “

فى طريق النور ومع اليتيم ” الجزء السابع “

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء السابع مع اليتيم، وهذا هو الإمام ابن الجوزي رحمه الله، فقد نشأ يتيما على العفاف والصلاح في حضن عمته، فحملته إلى العلماء، فصنف ووعظ، فقال رحمه الله عن نفسه، أسلم على يدى أكثر من مائتي ألف، وقال شيخ الإسلام رحمه الله، ولا أعلم أحدا صنف في الإسلام أكثر من تصانيفه، وهذا هو الزبير بن العوام رضي الله عنه، الذي عده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بألف فارس، كان نتاج تربية أمه السيدة صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها، بعد أن مات أبوه وهو صغير، وكانت أمه صفية تضربه ضربا شديدا وهو يتيم، فقيل لها قتلته، أى يمعنى أهلكتيه، قالت إنما أضربه لكي يدبّ، ويجرّ الجيش ذا الجلب، فماذا كان بعد؟ فقال الثورى، هؤلاء الثلاثة أحد نجدة الصحابة، حمزة، وعلي، والزبير، وعن عروة قال كان في الزبير ثلاث ضربات بالسيف، إحداهن في عاتقه، إن كنت لأدخل إصبعي فيها، وقد ضُرب اثنتين يوم بدر، وواحدة يوم اليرموك، ولا تنس أنه اليتيم الذي كانت أمه تضربه، فقال الشاعر خلق الله للحروب رجالا، ورجالا لقصعة وثريد، وهذا هو الإمام الأوزاعي رحمه الله، قد مات والده وهو صغير، فربّته أمه، وقد نقل الذهبي في ترجمته عن العباس بن الوليد قال ما رأيت أبي يتعجب من شيء تعجّبه من الأوزاعي، فكان يقول سبحانك تفعل ما تشاء، كان الأوزاعي يتيما فقيرا في حِجر أمه تنقله من بلد إلى بلد، وقد جرى حلمك فيه أن بلغته حيث رأيته، يا بنى عجزت الملوك أن تؤدب نفسها وأولادها، وأدب الأوزاعي نفسه، وغير هؤلاء كثير، كانوا أيتاما.

فى طريق النور ومع اليتيم ” الجزء السابع “

كالسيوطي وابن حجر والثوري والقاسم بن محمد، وغيرهم من السلف عاشوا اليُتم، لكنهم أناروا الدنيا بالعلم والفهم، ولم يكن اليُتم عائقا لهم عن النهوض، بل ربما كان دافعا لهم، فإن الله عز وجل، جابر كسر اليتيم، ورافع قدره، ومن كتب عليه اليُتم وهو ضعيف، فالجنة مأوى المستضعفين من المؤمنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم”ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف مستضعف، لو أقسم على الله لأبره” رواه البخارى ومسلم، فإن اليتيم فرد من أفراد الأمة، ولبنة من لبناتها، فإن غير اليتيم يرعاه أبواه، يعيش في كنفهما تظلله روح الجماعة، يفيض عليه والداه من حنانهما، ويمنحانه من عطفهما، ما يجعله بإذن الله بشرا سويا، وينشأ فيه إنشاء متوازنا، أما اليتيم فقد فقد هذا الراعي، ومال إلى الانزواء، ينشد عطف الأبوة الحانية، ويرنو إلى من يمسح رأسه، ويخفف بؤسه، يتطلع إلى من ينسيه مرارة اليتم وآلام الحرمان، فكم من أم لأيتام يحوم حولها صبيتها وعينهم شاخصة نحوها، لعلهم يجدون عندها إسعافا، فإن اليتيم إذا لم يجد من يستعيض به حنان الأب المشفق والراعي الرافق، فإنه سيخرج نافر الطبع، وسيعيش شارد الفكر، لا يحس برابطة، ولا يفيض بمودة، وقد ينظر نظر الخائف الحذر، بل قد ينظر نظر الحاقد المتربص، وقد يتحول في نظراته القاتمة إلى قوة هادمة، فإن من خيار بيوت المسلمين هو بيت فيه يتيم يُحسن إليه، وإن خفض الجناح لليتامى والبائسين دليل الشهامة، وكمال المروءة، وإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وتحفظ من المحن والبلايا.

فى طريق النور ومع اليتيم ” الجزء السابع “

وإن في الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم “أربع حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها مدمن الخمر، وآكل ربا، وآكل مال اليتيم، والعاق لوالديه” وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “أحرج مال الضعيفين المرأة واليتيم” أى أوصيكم باجتنابهما، وإن هناك يُتم من نوع آخر، معه أبواه لكنه يعيش حياة الغفلة، وأعداد هؤلاء يتضاعف مع مرور الأيام وكثرة المشاغل والملهيات، فالأب مشغول في وظيفته أو تجارته أو سهرته أو سفرته، والأم كذلك قد تركت ولدها للخادمة، وأصبحت مشغولة بين السوق والوظيفة، وبين الأزياء والموضة، وحين يكبر الولد وينتهي من رعاية الخادمة ويملك الخروج من المنزل ولو مع صغر سنه، فإنه يلتقم ثدى الشارع، ويختاره سكنا بدل البيت، ليقطع فيه جُل الوقت وهذا يسمى يتيم التربية، فإننا لا نطلب من الرجل ولا من المرأة أن يتركوا أشغالهم التي يطلبون منها لقمة العيش، لكننا نقول لهم إن فترة الغياب الطويل عن الأولاد لها أثر كبير، ولذا كان من الضروري على الزوجين تخصيص أوقات كافية للجلوس مع أبنائهم، واصطحابهم، وحل مشكلاتهم، وإشراكهم معهم في الحياة، فإن من فضل الله ورحمته بعباده أن وسع لهم أبواب الخير وجلى لهم سبل نيل مرضاته والفوز بجنته، وإن من أبواب الخير التي ينال بها العبد السعادة في الدنيا والتكريم في الآخرة هو كفالة اليتيم ورعايته، فإن كفالة اليتيم من الطرق الحسنة لصرف المال في مرضاة الله التي يسأل عنها يوم القيامة، كما ورد في حديث عبدالله بن مسعود رضى الله عنه أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، قال.

فى طريق النور ومع اليتيم ” الجزء السابع “

“لا تزول قدما ابنِ آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأَل عن خمس، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابِه فيما أبلاه، وماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم” وقد جاء الإسلام ليعالج مشكلة اجتماعية قد فشت في المجتمع الجاهلى، فحذر أبلغ تحذير من الاستيلاء على مال اليتيم، أو استباحته، أو التفريط في أمواله، وأعد لمن فعل ذلك عذاب السعير، وأكل النار على سبيل الحقيقة، فإن أكل أموال اليتامى أو الاستيلاء عليها، أو قهره له آثار سيئة على المجتمعات إذ هو من أنواع القهر الاجتماعي، ومن أسباب ضعف الأمم والمجتمعات، فهو سبب للمشكلات الاجتماعية كالفقر، والحسد، والحقد، والبطالة، والظلم، والأنانية، والقسوة، والعنف، والكراهية بين الناس والاعتداء على حقوق الآخرين، بل بين الأقارب فجاء الإسلام بتشريعه فنزع الغل والحسد، والبغض من القلوب، وأقام مكانها الرحمة والعطف على اليتيم والمسكين، والأرملة، وجعل هذه الأعمال من أسباب دخول الجنة، ومرافقة النبى صلى الله عليه وسلم، في أعلى درجات الجنة، وجعلها عبادة يتقرب بها إلى الله عز وجل، وبذلك أرسى مبدأ التكافل الاجتماعي، والرحمة بالضعيف، ويعد هذا من أسباب قوة الأمم، ولا شك أن الشريعة قد سبقت في معالجتها للمشكلات الاجتماعية بنظرتها إلى المآلات والعواقب، وعدم التهاون بحقوق اليتامى، نظرا ليتمهم وضعفهم، وصغر اليتيم، أو عدم إدراكه وفهمه للأمور، لأن العواقب سيئة على المجتمع، وقد أوصى الله نبيه صلى الله عليه وسلم، بعدم قهر اليتيم، ولقد كانت العرب تأخذ أموال اليتامى وتظلمهم حقوقهم.

فى طريق النور ومع اليتيم ” الجزء السابع “

وقد أفاد قوله في بطونهم أنها ظرفا ليأكلون أن بطونهم أوعية النار على سبيل الحقيقة بأن يخلق الله لهم نارا يأكلونها في بطونهم، وقد جاءت السنة كذلك ببيان ذلك النوع من العذاب لمن يأكل أموال اليتامى ظلما، وهو أكل النار في بطونهم على جهة الحقيقة، ولنا أن تتخيل مدى العذاب الأليم الذى يلحقه من أكل النار في بطنه فيأكلها حتى تخرج من أسفله، وجاء تفسير النار في الآية “إنما يأكلون في بطونهم نارا أي حراما، لأن الحرام يوجب النار، فسماه الله تعالى باسمه، وهو قول جماعة من أهل التأويل، وإن من جملة كتابه صلى الله عليه وسلم الذى أرسله مع عمرو بن حزم إلى أهل اليمن وكان في الكتاب إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة “الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمن بغير حق، و الفرار في سبيل الله يوم الزحف وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، وتعلم السحر، و أكل الربا، وأكل مال اليتيم” فيجب على الإنسان أن يعامل اليتيم كابنه، وأنه يجزى بذلك عن عبد الرحمن بن أبزى قال، قال داود عليه السلام فى وصاياه ” كن لليتيم كالأب الرحيم، واعلم أنك كما تزرع كذلك تحصد ما أقبح الفقر بعد الغنى، وأكثر من ذلك أو أقبح من ذلك الضلالة بعد الهدى، وإذا وعدت صاحبك فأنجز له ما وعدته فإن لا تفعل يؤرث بينك وبينه عداوة، وتعوذ بالله من صاحب إن ذكرت لم يعنك، وإن نسيت لم يذكرك” وإن من خطر له أمر من الأمور التي تهم الناس في معاشهم أو معادهم، وطرأ عليه أن يبحث في القرآن لعله يجد فيه شيئا عنه، فإنه يعجب حين يجد فيه ما يريد، وزيادة على ما يريد مما لم يطرأ عليه.

فى طريق النور ومع اليتيم ” الجزء السابع “

وهذا من إعجاز القرآن الكريم، أنه دل على العلوم كلها، وحوى الحقوق والواجبات، وبين العقائد والعبادات والمعاملات، مع ما فيه من القصص والأخبار، والسلوك والأخلاق، وغير ذلك من العلوم والمعارف، ولقد كرم النبي صلى الله عليه وسلم الذي نشأ يتيما اليتامى على الأرض من المسلمين تكريما عجيبا، ووالله لو لم يأت في السنة إلا هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة لكفى، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال “أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وأشار النبي بالسبابة والوسطى” فأى فضل وأي شرف، ولفظ رواية مسلم، قال صلى الله عليه وسلم “كافل اليتيم له أو لغيره أي إذا كان اليتيم من قرابته أو كان اليتيم أجنبيا عنه لا يعرفه، معي في الجنة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى” فأى فضل وأى شرف لمن يكفل اليتيم أن يكون مرافقا فى الجنة للنبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ” أنا أول من يفتح باب الجنة، فأرى امرأة تبادرنى، أي تسرع خلفي لتدخل معي إلى الجنة، فأقول لها مالك؟ من أنتى؟ فتقول المرأة، أنا امرأة قعدت على أيتام لي” امرأة جلست تربي أيتامها بعد موت زوجها تسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم لتدخل معه الجنة، فقال الحافظ ابن حجر، وقد يشتمل هذا الحديث على الأمرين، أى على أمر السرعة والمنزلة معا، تسرع لتكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتكون في منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، ويقول لها الرسول صلى الله عليه وسلم “مالك؟ من أنتى؟

فى طريق النور ومع اليتيم ” الجزء السابع “

فتقول أنا امرأة قعدت على أيتام لى” جلست على أيتام لها لتربيهم تربية طيبة بالحلال الطيب، بعيدا عن أجواء المعصية، وعن أبي هريرة رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “الساعي على الأرملة والمسكين” والأرملة هي التي مات زوجها وترك لها أولاده، كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل” ررواه البخارى ومسلم، فكان الساعي على من مات عنها زوجها وترك لها أفراخها الصغار أجره عند العزيز الغفار كأجر المجاهد في سبيل الله الذي حمل نفسه وروحه على أسنة السيوف والرماح وطلب الشهادة من الله عز وجل، أو كالذى يتعب نفسه ويصوم النهار ويقوم الليل لله العزيز الغفار عز وجل، ونقول لليتامى إن الذي ابتلاكم باليتم قد أوجب لكم من الرعاية والاهتمام ما يخفف عنكم آهات اليتم وجراحاته، مدركين أن اليتم لم يكن يوما عيبا أو نقصا في الإنسان أو عذرا للإخفاق في الحياة، كما أن اليتم ليس سببا للتأخر أو قاضيا على النهضة والتقدم، فكم من يتيم عاش بخير ونال ما نال من الخير بفضل الله، فهذا سيد الأولين والآخرين وهو خير من وطئت قدمه الثرى، كان يتيما حيث توفي أبوه عبد الله وهو صلى الله عليه وسلم حمل في بطن أمه، وتوفيت أمه وهو في السابعة من عمره، وتوفي جده وهو في الثامنة من عمره، وكفله عمه أبو طالب، وما زال ينشأ حتى إذا بلغ أشده أوحى الله إليه، وكلفه بهذه الرسالة العظمى، التي أشرقت بها الأرض بعد ظلماتها، وتآلفت القلوب بعد شتاتها، وأنار الله به البصائر، وأخرج به الأمة من الظلمات إلى النور صلى الله عليه وسلم، وحسب اليتامى أن إمام المرسلين نشأ يتيما، فإن تلكم عناية الإسلام باليتيم التي سبقت ما يسمى باليوم العالمي لليتيم بعشرات القرون، فلم تجعل له شريعة الإسلام يوما للاحتفاء به ولا مناسبة عابرة، بل أوصت بالاهتمام به في سائر الأيام والأحوال، والمسلم مطالب شرعا ومجتمعا وعرفا أن يساهم في تخفيف معاناة اليتامى ويساعدهم في تحقيق مصالحهم، ليعيشوا كغيرهم من أبناء المسلمين في أمن ورخاء وسعادة وهناء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى