مقال

الحلال بيّن والحرام بيّن ” الجزء الخامس عشر

 

إعداد / محمــــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء الخامس عشر مع الحلال بيّن والحرام بيّن، فالله عز وجل بين لنا الحلال والحرام في كتابه الكريم، فأنت لست مع إنسان يذكر وينسى، ولكن أنت مع خالق الأكوان، فالذى أمرك به هو الحلال، والذي نهاك عنه هو الحرام، وما سكت عنه فهو عفو، فيجوز أن نأكل على الطاولة يجوز، فإن المباح لا يحتاج إلى دليل، لماذا؟ لأن الأصل في الأشياء الإباحة، فالمباح لا يحتاج إلى دليل، أما التحريم فيحتاج إلى دليل، لو كان الأصل كل شيء محرم صار المباح يحتاج إلى دليل، ولكن الأصل أن كل شيء مباح، فالحرام يحتاج إلى دليل، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا، ثم تلا هذه الآية ” وما كان ربك نسيا” ولا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، فقال الله تعالى لهم اذبحوا بقرة، قالوا ما لونها؟ ما هي إن البقر تشابه علينا؟ ما زالوا يسألون عن صفات تفصيلية.

 

في البقرة حتى ضيق عليهم، ذلك يعني أن الله حرم لحم الخنزير، وحرم الدم المسفوح، وحرم الميتة، لكن لم يتحدث عن الجبن ولا عن السمن إذا حلال، لأن الأصل في الأشياء الإباحة، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ” إن الله افترض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تقربوها، وترك أشياء غير نسيان رحمة لكم فلا تبحثوا عنها” رواه الطبرانى، فإن الإباحة ليست متعلقة بالأعيان والذوات بل تشمل الأفعال ما لم يأت نص في تحريمها، ونستنبط من هذا أن هناك حكمة بالغة لا حدود لها من الأشياء التي أمرنا الله تعالى بها، وأن هناك حكمة بالغة لا حدود لها من الأشياء التي نهى الله تعالى عنها، وهناك حكمة بالغة لا حدود لها لا تقل عن حكمة المأمورات والمنهيات هى الأشياء التي سكت الله عنها، حكمة فى الذي أمر، وحكمة فى الذي نهى، وحكمة في الذي سكت، وأما عن النقطة الثانية أن قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة لا تتعلق بالأعيان بل تشمل الأفعال، مثلا أن تأكل لحما معينا، أو أن تشرب شرابا معينا.

 

أو أن تفعل فعلا معينا، صار هناك تعزية لا يوجد مانع إن ذهب الرجل وعزى أخاه، أحيانا هناك عادات وتقاليد وتصرفات ليست متعلقة بالحلال والحرام مباحة، فالإباحة ليست متعلقة بالأعيان والذوات، تشمل الأفعال والعادات والتقاليد ما لم يأت نص في تحريمها، وإن العبادات لا يجوز أن تضيف عليها شيء، كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فعن السيدة عائشة رضى الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ” من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد” رواه البخارى ومسلم، أما لو أحدثت سلوكا اجتماعيا ولم تسمه عبادة ليس له علاقة لا بالحلال ولا بالحرام على قاعدة أن الأصل في الأشياء الإباحة، فإن العبادات أنشأها الشارع الحكيم فلا يستطيع إنسان أن يضيف عليها شيء، ولكن المعاملات أنشأها الإنسان، والشرع إما أنه أقرها، أو صححها، أو عدلها، أو بدلها، وإن تصرفات العباد من الأفعال والأقوال نوعان، وهما عبادات وعادات، فإن العبادات الشرع الحكيم أنشأها أصلا ابتداء، إذا لا يجوز أن تضيف عليها.

 

لكن المعاملات أنشأها الإنسان، ورأى الشرع فيها أنه أقرها، أو عدلها، أو هذبها، أو صححها، وإن أصل الحلال والحرام في العبادات أن الله شرعها ابتداء، فقال بعض العلماء إن تصرفات العباد من الأفعال والأقوال نوعان، عبادات يصلح فيها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، لذلك أصل العبادات التوقيت، وأنها موقوتة على نص صحيح، وأصل العبادات التوقيت فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى، فقال الله عز وجل كما جاء فى سورة الشورى ” أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ” وقال الله عز وجل كما جاء فى سورة يونس ” قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا ” وهكذا فإن أصل الحلال والحرام في العبادات أن الله شرعها ابتداء، بينما أصل المعاملات أن الناس ابتدؤوها، لكن الشرع صححها، أو أقرها، أو عدلها، أو بدلها، وقال بعض الصحابة الكرام عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ” كنا نعزل والقرآن ينزل، فلو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن” رواه مسلم.

 

ومعنى كنا نعزل أى نعزل ماءنا عن رحم أزواجنا والقرآن ينزل فلو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن الكريم، فهذه قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد نص صحيح صريح في تحريمها، وإن التحليل والتحريم من حق الله سبحانه وتعالى وحده، وأما عن القاعدة الثانية هى التحليل والتحريم من حق الله وحده، لا يستطيع إنسان كائنا من كان ولو كان نبى أن يحرم من عنده أو أن يحلل، فقال تعالى كما جاء فى سورة الأنعام” إن أتبع إلا ما يوحى إلى قل هل يستوى الأعمى والبصير أفلا تتفكرون” وقد قال بعضهم ثلاث نصائح تكتب، وهى اتبع لا تبتدع، واتضع لا ترتفع، والورع لا يتسع، وأن أول كلمة في الخلافة التي ألقاها الخليفة أبو بكر الصديق رضى الله عنه قال إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فهذا مؤمن كبير، أو صدّيق، أو صحابي جليل، أو تابعي جليل، أو فقيه كبير، فهو يكتشف الأحكام ولا يأتي بالأحكام من عنده، وهو يكتشف، ويستنبط، فإن الله عز وجل في القرآن الكريم نعى على أهل الكتاب أنهم جعلوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله عز وجل.

 

فقال تعالى فى سورة التوبة ” اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون” فإن كلام الأشخاص لا يحلل حراما، ولا يحرم حلالا، فالحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه الله، والتحليل والتحريم من حق الله وحده، فالأنبياء يبلغون، والعلماء يبينون، والمشرع هو الله تعالى، فهذه قواعد خطيرة وأساسية في علوم الدين، وقد جاء عدى بن حاتم إلى النبى صلى الله عليه وسلم وكان قد اتبع النصرانية قبل الإسلام، فلما سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية من سورة التوبة ” اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون” فقال يا رسول الله إنهم لم يعبدوهم، فقال صلى الله عليه وسلم بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم” فأنت عندما تلتقي مع إنسان لا تقول إنه إله، أما حين يأمرك بما تخالف الشرع وتنصاع له فأنت عاملته كإله.

 

جعلته إلها لا بلسانك بل بسلوكك، فقد أمرك بقطيعة الرحم، مثلا وانصعت له، فأنت ماذا فعلت؟ أنت خالفت شرع الله عز وجل واتبعته، أنت ما قلت إنه إله لكن اتباعك إياه بما يخالف الشريعة جعلته إلها وأنت لا تدري، فقال يا رسول الله إنهم لم يعبدوهم قال صلى الله عليه وسلم” بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم” وهناك رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم ” ألا إنهم لم يكونوا يعبدوهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه” فإن العلماء الورعون يكرهون أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام إلا ما كان بينا بلا تفصيل بينا، والآن لو أردنا أن نطبق هذه القاعدة، لو فرضنا إنسان له موجه ديني، هذا الموجه أمره أمرا مخالفا للقرآن، أو خلاف السنة، وطبقه، ماذا فعل هذا الإنسان؟ عبده من دون الله، فإن العلماء لا يفتون إلا بما كان فيه دليل قطعي، لذلك روى الإمام الشافعي في كتابه الأم عن القاضى أبي يوسف صاحب أبي حنيفة قال “أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون الفتية”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى