مقال

الحجر الدائر

 

بقلم/ أحمد عيسى

“شعلان” أربعيني، أسمر البَشَرَة، مُلتحٍ، يعمل مدرساً لإحدى اللغات الأجنبية، استطاع رغم دخله المادي الهزيل أن يشتري شقة في الدور الثامن والأخير بعمارة متواضعة في أحد أحياء القاهرة المُغرِقة في الشَّعبيّة.

نزح “شعلان” من أعماق الصعيد، ارتسمت ملامحه بوعورة بلدته، وكشف زيّه عن شظف دخله، ورقة حاله، ثم شفَّتْ لهجته عن محافظته وبيئته، ونَمَّ حواره عن فلسفته وفكره، ثم سرعان ما أسفرتْ أحواله عن فهم مغلوط للدين لا يخلو من هوى وشطط!

كان “شعلان” يتجاهل لافتات العمارة التي تهيب بالسكان لسرعة سداد فواتير الكهرباء والمياه وأعمال الصيانة الدورية المختلفة، فينزل من بيته إلى وُجهته لا تكاد تسمع له رِكْزاً، ويصعد إلى شقته في صمت مطبق كالقبور؛ حتى اشتكى بعض النساء مفاجأتهن به أثناء هبوطه أو صعوده وهن في ثياب البيت!

ربما زار “شعلان” مسقط رأسه في أعالي الصعيد ثلاث أو أربع مرات في العام، وفي كل عودة له من الصعيد كان له نقاش وخلاف وجدل وتنصّل من المشاركة في سداد فواتير الخدمات والإصلاحات..

ساكن: يا شيخ “شعلان”، هناك تبعات مالية عليك جراء فاتورة المياه وإصلاح “الموتور”.

شعلان: كنتُ مسافراً، ولم أستهلك مياهاً، ولم أتسبب في عطب شيء.

ساكن: فاتورة المياه تأتي موزعة على عدد الشقق، وعطل “الموتور” أمر دوري وحتمي.

شعلان: بل تأتي الفاتورة وفق الاستهلاك وإلا ما فائدة عداد المياه؟ وعطل “الموتور” لا بد له من سبب.

ساكن: اتفقنا على أن يدفع الموجودون بالعمارة سهماً من الفاتورة والغائبون عنها نصف سهم.

شعلان: كيف يدفع امرؤ قيمة شيء لم يُفِد منه ولم يستخدمه ولم يتسبب في إفساده؟

ساكن: نحن في سفينة واحدة وعلينا أن نتعاون جميعاً.

شعلان: نتعاون على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان.

ضاق الجيران ذرعاً بالشيخ “شعلان”، وبقدر ما لاحظوا حفاظه على الصلوات والجماعات بالمساجد، بقدر ما تبينوا تنكبه جادّة الصواب في سداد ما عليه من تبِعات مالية، ثم عرفوا بعد ذلك تهربَه من سداد فواتير كهرباء شقته..

ساكن: صار حساب فاتورة المياه كل شهر بعد أن كان كل شهرين.

شعلان: إذن فستأتي قيم الفواتير بنصف قيمة ما مضى من فواتير.

ساكن: جاءت الفواتير بالفعل، لكنها زادت عن سابقاتها وطغت.

شعلان: ما رأيكم أن نمتنع عن دفع الفواتير؟

ساكن: إذن ستنتزع شركة المياه العداد.

شعلان: لا بأس، ماذا نصنع بالعداد؟

ساكن: لن يكتفوا بأخذ العداد، بل سيقطعون عنا المياه.

شعلان: نصلها نحن بطريقة أو بأخرى من دون العداد.

ساكن: هذه جريمة قانونية ومخاطرة قد نغرم بسببها الكثير.

اجتمع عدد من السكان للنظر في أمر “شعلان”، واقترح بعضهم خفض قوة دفع “الموتور” للمياه كي لا تصل إليه؛ حتى يضطروه لدفع أسهم الفواتير المتراكمة عليه..

شعلان: أدركني فإن المياه لم تصل عندي منذ ثلاثة أيام.

ساكن: ادفع ما عليك أولاً كي نستطيع صُنع شيء لك.

شعلان: سأدفع فاتورة، وتبقى اثنتان إلى أن أقبض راتبي.

توالت الفواتير كأن قِيمَها قد قُدَّت من نار، فكان “شعلان” يدفع واحدة، ويسوِّف أخرى، ويتهرب من ثالثة، ويجادل بالباطل ليدحض به الحق في رابعة وخامسة.

لاحت لـ “شعلان” فرصة أن يحوِّل عملَه إلى مسقط رأسه ببلدته، وسرَّه أن يبيع شقته أو يؤجرها إيجاراً جديداً يرفد به دخله ويدعم به راتبه، فخلَّف وراءه ثلاث فواتير، ثم انطلق عائداً إلى بلدته وعمله الجديد بالصعيد.

وبعد زُهاء عامٍ من تغيُّبه، جاء “شعلان” إلى القاهرة لبيع شقته أو تأجيرها، فإذا بها مُزجاة راكِدة كاسدة، يعيبها عُلو ارتفاعها من دون مصعد، ويشينها لهيب نهارها بالصيف، ويزري بها زمهرير لياليها في الشتاء.

حَرَصَ “شعلان” في الفترة التي قضاها بالقاهرة لاستثمار شقته على النزول والصعود في دَرَجات السُّلَم دون أن يَسمع أحدٌ له همساً، أو يُحسّ له حركة وفعلاً.

حدد “شعلان” موعداً مع مشترٍ للشقة بمسجد “النور المحمدي” عقب صلاة العشاء، وفي الوقت الذي توجه “شعلان” إلى المحراب إماماً، رافعاً يديه بالإحرام، كان يسأل بعض المصلين بعضهم مِنْ خَلْفِه: من هذا الرجل الذي أذن بالصلاة وأقام، وينبري ليؤم الناس من دون أن يقدمه أحد؟!

وبعد أن التقى “شعلان” بالمشتري، اشترط عليه الأخير حجز وإرجاء مبلغ عشرة آلاف جنيه من قيمة ثمن الشقة لحين حضور “شعلان” جلسة صحة التوقيع، وموافاته له بآخر فواتير المياه والكهرباء والغاز، وذلك بعد تنازله عن العدادات رسمياً مع إيضاح موقفه من صندوق خدمات وصيانة العمارة.

حينئذٍ قلَّب “شعلان” كفيه، وتذكر المثل القائل: “الحجر الداير لابد من لطه”!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى