مقال

الإمام أحمد بن حنبل “جزء 2”

الإمام أحمد بن حنبل “جزء 2”

بقلم / محمـــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء الثاني مع الإمام أحمد بن حنبل، وحمل الفقهاء على قبولها، ولو اقتضى ذلك تعريضهم للتعذيب، فامتثلوا، خوفا ورهبا، وامتنع أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح عن القول بما يطلبه الخليفة، فتم تقييدهم بالحديد، وتم إرسالهم إلى بغداد إلى الخليفة المأمون الذي كان في طرسوس، لينظر في أمرهما، غير أنه توفي وهما في طريقهما إليه، فأعيدا مكبّلين إلى بغداد، وفي طريق العودة قضى محمد بن نوح نحبه في مدينة الرقة، بعد أن أوصى رفيقه بقوله، أنت رجل يُقتدى به، وقد مدّ الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك، فاتقي الله واثبت لأمر الله، وكان الإمام أحمد عند حسن الظن، فلم تلن عزيمته، أو يضعف إيمانه أو تهتز ثقته، فمكث في المسجد عامين وثلث عام، وهو صامد كالرواسي، وحُمل إلى الخليفة المعتصم الذي واصل سيرة أخيه.

 

على حمل الناس على القول بخلق القرآن، واتخذت معه في حضرة الخليفة وسائل الترغيب والترهيب، ليظفر المجتمعون منه بكلمة واحدة، تؤيدهم فيما يزعمون، يقولون له ما تقول في القرآن؟ فيجيب هو كلام الله، فيقولون له أمخلوق هو؟ فيجيب هو كلام الله، ولا يزيد على ذلك، ويبالغ الخليفة في استمالته وترغيبه ليجيبهم إلى مقالتهم، لكنه كان يزداد إصرارا، فلما أيسوا منه علقوه من عقبيه، وراحوا يضربونه بالسياط دون أن يستشعر واحد منهم بالخجل وهو يضرب إنسانا لم يقترف جرما أو ينتهك عرضا أو أصاب ذنبا، فما بالك وهم يضربون إماما فقيها ومحدثا ورعا، يأتمّ به الناس ويقتدون به، ولم تأخذهم شفقة وهم يتعاقبون على جلد جسد الإمام الواهن بسياطهم الغليطة، حتى أغمي عليه، ثم أطلق سراحه، وعاد إلى بيته، ثم مُنع من الاجتماع بالناس.

 

في عهد الخليفة الواثق لا يخرج من بيته إلا للصلاة، حتى إذا ولي المتوكل الخلافة، فمنع القول بخلق القرآن، ورد للإمام أحمد اعتباره، فعاد إلى الدرس والتحديث في المسجد، ولم يتزوج أحمد بن حنبل إلى أن بلغ الأربعين من عمره بسبب إنشغاله بالعلم، ولكثرة ترحاله، وكانت أولى زوجاته من ضواحي بغداد وكان إسمها العباسية بن فضل وقد عاشت معه ثلاثون عام، وأنجبت له صالحا، وبعد أن توفت تزوج ريحانة وأنجبت له إبنهما عبد الله، فلما توفت تزوج حُسن وأنجبت له زينب والحسن ومحمد وسعيد، وقد جمع تلاميذ أحمد بن حنبل من بعده مسائل كثيرة في الفقه والفتوى ودونوها ونقلوها بعضهم عن بعض في مجاميع كبيرة كما صنع ابن القيم في كتابيه، المغني، والشرح الكبير، ولم يدون الإمام أحمد مذهبه في الفقه كما لم يمله على أحد من تلاميذه.

 

كراهة اشتغال الناس به عن الحديث، وهو بهذا على غير منهج أبي حنيفة، الذي كان يدون عنه تلاميذه في حضوره، ومالك الذي كان يدون بنفسه وكذا الشافعي، فالجميع قد تركوا فقها مدونا بخلاف أحمد فلم يترك فقها مدونا، إلا أن تلاميذه بعده قاموا بتدوين ما سمعوه منه، ومن هؤلاء التلاميذ محمد بن إسماعيل البخاري، صاحب الصحيح، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، صاحب الصحيح، وأبو داود صاحب السنن ومن تلاميذه البررة الذين دونوا ما سمعوه من فتاوى وآراء فقهية ولداه صالح، وعبدالله، ومن تلاميذه أيضا أبوبكر أحمد بن محمد بن هانئ البغدادي المعروف بالأثرم وهو من أشهر من دون الفقه لأحمد في كتاب، السنن في الفقه، على مذهب أحمد وشواهده من الحديث ومن أشهرهم أيضا أبوبكر أحمد بن الخلال، في كتاب الجامع ويقع في عشرين سفرا.

 

وما دونه أبوبكر في هذا الكتاب يعد نقلا من تلاميذ أحمد، أما في الحديث فإن للإمام أحمد مسنده المعروف والمشهور، وقد بنى الإمام أحمد مذهبه على أصول هي كتاب الله أولا ثم سنة رسول الله الكريم صلى الله عليه وسلم ثانيا، ثم فتوى الصحابي الذي لا يعلم له مخالف، ثم فتوى الصحابي المختلف فيها، ثم القياس وهو آخر المراتب عنده، وكان أحمد يعترف بالإجماع إذا ما تحقق، ولكنه كان يستبعد تحققه ووجوده، بجانب هذا كان أحمد يعمل بالاستصحاب والمصالح المرسلة وسد الذرائع متبعًا في ذلك سلف الأمة، وكان مرضه في أول شهر ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين من الهجرة، وكانت وفاته يوم الجمعة حين مضى منه نحو من ساعتين، فاجتمع الناس في الشوارع، وبعث محمد بن طاهر حاجبه ومعه غلمان ومعهم مناديل فيها أكفان.

 

وأرسل يقول هذا نيابة عن الخليفة، فإنه لو كان حاضرا لبعث بهذا، فأرسل أولاده يقولون إن أمير المؤمنين كان قد أعفاه في حياته مما يكره، وأبوا أن يكفنوه بتلك الأكفان وأتي بثوب كان قد غزلته جاريته فكفنوه، واشتروا معه عوز لفافة وحنوطا واشتروا له راوية ماء، وامتنعوا أن يغسلوه بماء بيوتهم لأنه كان قد هجر بيوتهم فلا يأكل منها ولا يستعير من أمتعتهم شيئا، وكان لا يزال متغضبا عليهم لأنهم كانوا يتناولون ما رتب لهم على بيت المال، وهو في كل شهر أربعة آلاف درهم، وكان لهم عيال كثيرة وهم فقراء وحضر غسله نحو من مائة من بيت الخلافة من بني هاشم فجعلوا يقبلون بين عينيه ويدعون له ويترحمون عليه رحمه الله، وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله من الرجال والنساء ما لم يعلم عددهم إلا الله، ونائب البلد محمد بن عبد الله بن طاهر.

 

واقف في جملة الناس، ثم تقدم فعزى أولاد الإمام أحمد فيه، وكان هو الذي أم الناس في الصلاة عليه، وقد أعاد جماعة الصلاة عليه عند القبر، وعلى القبر بعد أن دفن من أجل ذلك، ولم يستقر في قبره رحمه الله إلا بعد صلاة العصر وذلك لكثرة الخلق، وقد روى البيهقي وغير واحد أن الأمير محمد بن طاهر أمر بحزر الناس فوجدوا ألف ألف وثلاث مائة ألف، وفي رواية، وسبعمائة ألف سوى من كان في السفن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى