مقال

الدكرورى يكتب عن غزوة مؤتة “جزء 1”

الدكرورى يكتب عن غزوة مؤتة “جزء 1”

بقلم / محمــد الدكــرورى

 

لقد كانت غزوة مؤتة مليئة بالدروس والعظات، وحافلة بالبطولات والإنتصارات، فهي تعطي البرهان على أن الإيمان إذا استقر في القلوب، وعمل عمله فيها، قاد النفوس إلى استقبال المنايا، وتمني الموت، ابتغاء رضوان الله تعالى وهكذا سقط القادة الثلاثة في مؤتة الواحد منهم تلو الآخر، ولم يكن همهم أنفسهم والرماح والسيوف قد خالطت أجسادهم، بل همّهم الإسلام، فلم تسقط رايته من أيديهم رغم ما لاقوه من ألم القتل والتمزيق، وقد حدثت غزوة مؤتة في الأول من شهر جمادى من العام الثامن الهجري، وكان سببها هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل الحارث بن عمير الأزدي رسولا إلى عظيم بُصرى، فلقيه شرحبيل بن عمرو الغساني، وهو عامل على البلقاء من الشام، فربطه، ثمّ قتله بشق عنقه، وقد عُرف آنذاك بأن قتل الرسل.

 

والسفراء يعني قيام الحرب، وعندما وصل خبر الأزدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعد جيشا يتكون من ثلاثة آلاف مقاتل، واعتبر هذا الجيش من أكبر الجيوش الإسلامية التي لم يُرى مثلها إلا في غزوة الخندق، فأرسل إلى مؤتة ثلاثة آلاف من المسلمين في جمادى الأولى من السنة الثامنة من الهجرة النبوية، وأمّر عليهم زيد بن حارثة ثم قال صلى الله عليه وسلم ” إن قُتل زيد فجعفر، وإن قُتل جعفر فعبدالله بن رواحة” رواه البخاري، فمضى الجيش حتى نزلوا معان من أرض الشام، وكانت أخبار هذا الجيش قد وصلت إلى الروم، فجهزوا لملاقاته مائة ألف، وانضم إليهم مائة ألف أخرى من نصارى العرب، فكانوا مائتي ألف كافر، مقابل ثلاثة آلاف من المسلمين، فالمقارنة بينهما ضرب من ضروب الخيال.

 

والدخول في القتال مجازفة أى مجازفة، مما جعل المسلمين يترددون في ملاقاة عدوهم، ويقيمون ليلتين يفكرون في أمرهم، فقالوا “نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدّنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، لكن عبد الله ابن رواحة قطع تفكيرهم، وشجّع الناس على المُضي في القتال قائلا “يا قوم والله إن التى تكرهون للتي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور، وإما شهادة، فقال الناس قد والله صدق ابن رواحة، فمضوا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب، فانحاز المسلمون إلى مؤتة، وعبأوا أنفسهم فيها، ثم التحم الفريقان، وغريب جدا أن ينازل المسلمون عدوهم.

 

وهو يزيد عليهم بما يقارب سبعين ضعا، إن المقاييس والحسابات ترفض ذلك، لكن تحطمت المقاييس، وألغيت الحسابات، فالمقاتلون هنا ليسوا كسائر المقاتلين، بل هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم امتلأت قلوبهم إيمانا ويقينا، وعلموا أن ما عند الله تعالى حق، فلم يحجموا ويعتذروا بكثرة عدوهم وقلتهم، وقوته وضعفهم، وسمّيت غزوة مؤتة بذلك لأنها وقعت في منطقة في بلاد الشام تعرف باسم مؤتة، أما تسميتها بالغزوة، فجميعنا يعلم أن لفظ غزوة يطلق على المعارك التي شارك بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه لقتال الكفار، أو بإشرافه على المعركة دون أن يكون في الجيش مباشرة، لذا فإطلاق لفظ غزوة على معركة مؤتة أمر صحيح وذلك لخروج الجيش بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإشرافه عليها.

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي الجيش ” أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرا، اغزوا باسم الله في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا كبيرا فانيا ولا منعزلا بصومعة ولا تقربوا نخلا ولا تقطعوا شجرا ولا تهدموا بناء ” وهذه وصية عظيمة إلى جيش المسلمين قبل مسيره إلى مؤتة لمحاربة الروم، وهي جديرة بأن تتلى مرارا ويتدبرها رؤساء الجيوش في العالم قاطبة ويعملوا بمقتضاها حرفا حرفا إن كان لا مناص عن الحرب ولا مفر منها، واصطف المسلمون في مؤتة وقد اقتربت ساعة الصفر لأشرس موقعة في تاريخ السيرة النبوية، حيث أمواج بشرية كبيرة من الرومان ونصارى العرب تنساب إلى أرض مؤتة، ورجال كالجبال من المسلمين يقفون ثابتين في وجه أقوى قوة في العالم آنذاك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى