مقال

الدكروري يكتب عن الإمام ابن حبان ” جزء 2″

الدكروري يكتب عن الإمام ابن حبان ” جزء 2″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ونكمل الجزء الثاني مع الإمام ابن حبان، وبيّن شروط الثقات والمُعدّلين، مثل أبو الفضل أحمد بن علي بن عمرو السليماني البيكندي البخاري، فمع أنه تلمذ لابن حبان، وأفاد منه، فقد ترجمه في شيوخه في باب الكذابين، ورد عليه الذهبي فقال رأيت للسليماني كتابا فيه حط على كبار، فلا يسمع منه ما شذ فيه، وليس من شأن ما هو شاذ أن يثبت أمام الحقائق الساطعة، فهي التي تمكث في الأرض، ويذهب الزبد جفاء، فقد ظل ابن حبان متألقا في حياته، بل وبعد وفاته، حتى إن الناس كانوا يزورون قبره رغم أنف الحاسدين، وقال ابن حبان في مقدمة صحيحه لقد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ، فقد زار معظم البلدان في الخلافة الإسلامية المترامية الأطراف، وفي كل بلد حله كان له شيخ أو شيوخ تلقى عنهم العلم، وروى عنهم الحديث، وقد أنكر ابن حبان الحد والجهة لله.

 

وقد صرح بذلك في مقدمة كتابه الثقات، فثار عليه بعض طلاب العلم، وتم طردة من سجستان، ويفتخر بطرده يحيى بن عمار، حيث سأله أبو إسماعيل الهروي هل رأيت ابن حبان؟ فقال وكيف لم أره؟ نحن أخرجناه من سجستان، فيقول كان له علم كثير، ولم يكن له كبير دين، قدم علينا، فأنكر الحد لله، فأخرجناه من سجستان، وقد الإمام ابن حبان بكثرة التأليف في كثير من فروع الشريعة، فألف كتبا كثيرة في الحديث، والفقه، والبلدان، وغيرها، ومن أهم وأشهر كتبه هو صحيح ابن حبان وهو المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع، وكتاب الثقات، والمجروحين، ومشاهير علماء الأمصار، وروضة العقلاء ونزهة الفضلاء، والسيرة النبوية وأخبار الخلفاء، وتاريخ الصحابة الذين روي عنهم الأخبار، وقد فقدت أكثر كتبه، ولم يصلنا منها سوى النذر اليسير.

 

وذلك لأنه قد أوقف كتبه كلها لطلبة العلم في داره، فلما انتشرت الفتن والاضطرابات وضعف أمر الخلافة والسلطان، استولى المفسدون على داره وضاعت كتبه العلمية، وقال ياقوت الحموي ومن تأمل تصانيفه تأمل مُنصف، علم أن الرجل كان بحرا في العلوم ويقول أيضا أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره، وقد عكست مُصنفاته عقليته المُبدعة، وثقافته الواسعة، فلم تكن ليُستغنى عنها بغيرها، بل صارت كما قال ياقوت الحموي عدة لأصحاب الحديث وفي الفقه تعب عليه حتى صار من كبار فقهاء الشافعية، وقد أهله لذلك هو تمكنه فيه أن يكون قاضيا، إذ لا يلي القضاء آنذاك إلا مضطلع في الفقه، متمكن من نواحيه، عارف بدقائق مسائله، فولي القضاء مدة طويلة في أكثر من بلدة، منها نسا وسمرقند، وغيرهما.

 

ولعل هذا ما أثار حفيظة فقهاء الحنفية الذين كانوا يعدون وظيفة القضاء وقفا عليهم، وبرع أيضا في علم اللغة العربية، حتى عرف أسرارها، وحقيقتها ومجازها، وتمثيلها واستعاراتها، مما مكنه أن يستنبط الأحكام الشرعية من نصوص القرآن والسنة، وكثيرا ما كان يُمهد لاستنباطه بذكر القاعدة اللغوية المُتعارف عليها عند العرب، كقوله “العرب تذكر الشيء في لغتها بعدد معلوم ولا تريد بذكرها ذلك العدد نفيا عما وراءه وقوله «العرب في لغتها تطلق اسم البداءة على النهاية، واسم النهاية على البداءة، وغير ذلك مما نثره وبسطه في كتبه، مما يكشف عن مدى تعمقه في فهم اللغة العربية، وإداركه لمقاصد ألفاظها، وأسرار تراكيبها، ونضج في علم الكلام حتى تأثرت به عقليته، وتلون به فكره، فيذهب إلى تقسيم الشيء إلى كلي وجزئي.

 

وتفريق الشيئين المتضادين والمتهاترين على حد تعبيره، إلى غير ذلك مما هو واضح في تعليقاته وتفسيراته واستنتاجاته في كتابه الصحيح، وما طريقة ترتيب كتابه هذا حسب التقاسيم والأنواع إلا ثمرة من ثمار تأثره بعلم الكلام، وقد ذكر ذلك الإمام جلال الدين السيوطي في تدريب الراوي، وما محنته التي تعرض إليها إلا نتيجة لاستيلاء مصطلحات هذا الفن على ألفاظه وعباراته، مما يُشير إلى أن نسيج فكره قد شد من خيوط هذا الفن، ولم يكن علمه به مجرد إلمام واطلاع، بالإضافة إلى هذا فقد حصل علم الطب والفلك، ويظهر أنه بلغ فيهما رتبة أمكن معها القول فيه كان عالما بالطب والنجوم، وهذه الفنون والعلوم الكثيرة التي تمكن منها الإمام ابن حبان جعلت الحافظ ابن حجر يقول عنه كان صاحب فنون، وذكاء مفرط، وحفظ واسع إلى الغاية، رحمه الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى