مقال

الدكروري يكتب عن الإمام إبن الجوزي “جزء 3”

الدكروري يكتب عن الإمام إبن الجوزي “جزء 3”
بقلم / محمـــد الدكـــروري

ونكمل الجزء الثالث مع الإمام إبن الجوزي، وأعمار الأعيان وكتاب المدهش في الوعظ، وقد يكون أعظم مصنفات الوعظ بلاغة، وفنون الأفنان في عيون علوم القرآن، وسيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد، ومناقب عمر بن الخطاب، وأخبار الظراف والمتماجنين، وكتاب الأذكياء، وبستان الواعظين ورياض السامعين، والتبصرة في الوعظ، ودرر الجواهر من كلام الشيخ عبد القادر، وبحر الدموع، وكما كان خطيبا مفوها وأديبا ومن شعره في الزهد والقناعة، قال إذا قنعت بميسور من القوت، بقيت في الناس حرا غير ممقوت، يا قوت يومي إذا ما در خلفك لي، فلست آسي على در وياقوت، وقد أوصى أن يُكتب على قبره، يا كثير العفو عمن كثر الذنب لديه جاءك المذنب يرجو، الصفح عن جرم يديه، أنا ضيف وجزاء، الضيف إحسان إليه.

وكان ابن الجوزي طموحا، فيه بهاء وترفع في نفسه، دفعه لأن يطلب الجلوس مكان شيخه الزاغوني بعد وفاته، وكان وقتها شابا دون العشرين، فأنكروا عليه ذلك فاشتغل بالوعظ، وكان فنا رائجا، وبضاعة نافقة في تلك الأيام، وبغداد زاخرة بالوعاظ الكبار منهم والصغار فبذ الجميع، وتفرد بفن الوعظ، الذي لم يُسْبق إليه، ولا يلحق شأوه فيه وفي طريقته وشكله، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته، وجمال عباراته، ورائع تشبيهاته، وغوصه في المعاني البديعة، وتقريبه الأشياء الغريبة فيما يشاهد من الأمور الحسية، بأيسر وأوجز عبارة، حتى صار إمام صناعة الوعظ والتذكير، ومفخرة بغداد بلا نظير، وتهافت الناس على حضور مجالسه، وحضرها الخلفاء والوزراء، والكبراء والأمراء، والعلماء، والأغنياء والفقراء، كل على حد السواء، حتى عد عشرات الألوف من الناس.

في المجلس الواحد من مجالسه، وله العبارات المأثورة، والكلمات المؤثرة المشهورة، ويعتبر الإمام ابن الجوزي من العلماء الموسوعيين الكبار في أمة الإسلام فلقد كان متبحرا في فنون كثيرة، له فيها مشاركات ومصنفات فائقة، ومؤلفات رائقة زادت على الثلاثمائة مصنف، كثير منها في فن الوعظ والتذكير، والأخلاق والرقائق، وله في كل فن عدة كتب، ومن أشهر مصنفاته كتاب زاد المسير في التفسير، وهو مطبوع متداول، وكتاب المنتظم في التاريخ، وهو من كتب التاريخ المشهورة والشاملة، أكمل كتاب تاريخ الرسل والملوك للطبري، وله كتاب الموضوعات في الحديث وهو أول من أفرد الأحاديث الموضوعة بمصنف، وعلى منواله نسج من جاء بعده، وكتاب صفة الصفوة في أخبار الصحابة والتابعين، ومن جاء بعدهم من طبقات القرون الثلاث الفاضلة.

وكتاب تلبيس إبليس في كشف فضائح الصوفية، وصيد الخاطر في اللطائف والإشارات، ومنهاج القاصدين وهو مختصر لطيف لكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وله سلسلة المناقب والفضائل للنبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة والصالحين والأئمة والعلماء، وكثير من كتبه قد ضاعت في محنته إذ تسلط عليها ابنه العاق أبو القاسم عليّ فباعها بالأحمال بيع العبيد لمن يزيد، ولكن معظم إنتاجه العلمي مطبوع متداول بفضل الله عز وجل، ومازال الناس ينتفعون به ويدرسونه، وما من خطيب ولا واعظ إلا ولابن الجوزي عليه فضل الاقتباس من كلامه، وكتبه الفائقة، ورغم تفرده وإمامته لفن الوعظ إلا أن له مشاركات كثيرة في فنون شتى، وله اليد الطولى في فن التفسير والتاريخ والفقه، ودون ذلك في الحديث والحساب والفلك والطب، وله في كل فن عدة مصنفات.

حتى صار رأس علماء العراق في زمانه، وهذا التقدم والرياسة والاحتشام والسؤدد، جلب عليه كثيرا من عداوة الخصوم والأقران، وأتباع المذاهب الأخرى، وكان له دور ظاهر في تأجيج تلك العداوات بحدة لسانه، وهجومه اللاذع على الصوفية والفقراء، وبعض معاصريه، ولم يكن ابن الجوزي مثل غيره من كبار علماء الأمة، الذين كانوا كلمة إجماع بين الناس، ولم يخض في حقهم أحد، ذلك أن لابن الجوزي عداوات كثيرة، وخصومات عديدة أزكاها بحدة لسانه، وقوة نقده، وجهره بآرائه، واعترازه الشديد بنفسه، ولكن لا يقلل ذلك كله من تقدير الناس لعلمه وإمامته، وتبحره في فنون شتى، وهذه طائفة من أقوال الناس عنه، وثنائهم عليه، فقال الإمام الذهبي عنه كان رأسا في التذكير بلا مدافعة، يقول النظم الرائق، والنثر الفائق بديها، ويسهب، ويعجب، ويطرب، ويطنب، لم يأت قبله ولا بعده مثله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى