مقال

الدكروري يكتب عن الإمام إبن الجوزي “جزء 4”

الدكروري يكتب عن الإمام إبن الجوزي “جزء 4”

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ونكمل الجزء الرابع مع الإمام إبن الجوزي، فهو حامل لواء الوعظ، والقيّم بفنونه، مع الشكل الحسن، والصوت الطيب، والوقع في النفوس، وحسن السيرة، وكان بحرا في التفسير، علامة في السير والتاريخ، موصوفا بحسن الحديث، ومعرفة فنونه، فقيها، عليما بالإجماع والاختلاف، جيد المشاركة في الطب، ذا تفنن وفهم وذكاء، وحفظ واستحضار، وقال أبو عبد الله الدبيثي في تاريخه شيخنا جمال الدين صاحب التصانيف في فنون العلوم من التفسير والفقه والحديث والتواريخ وغير ذلك، وإليه انتهت معرفة الحديث وعلومه، والوقوف على صحيحه من سقيمه، وكان من أحسن الناس كلاما، وأتمهم نظاما، وأعذبهم لسانا، وأجودهم بيانا، وبورك له في عمره وعمله، وقال الموفق عبد اللطيف المقدسي عنه كان ابن الجوزي لطيف الصورة، حلو الشمائل.

 

رخيم النغمة، موزون الحركات والنغمات، لذيذ المفاكهة، يحضر مجلسه مائة ألف أو يزيدون، لا يضيع من زمانه شيئا، يكتب في اليوم أربع كراريس، وله في كل علم مشاركة، لكنه كان في التفسير من الأعيان، وفي الحديث من الحفاظ، وفي التاريخ من المتوسعين، ولديه فقه كاف، وأما السجع الوعظي فله فيه ملكة قوية، وقال الإمام ابن قدامة المقدسي ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ، وصنف في فنون العلم تصانيف حسنة، وكان صاحب فنون، كان يصنف في الفقه، ويدرس وكان حافظا للحديث، إلا أننا لم نرض تصانيفه في السنة، ذلك أن ابن الجوزي قد خالف الحنابلة في الكثير من مسائل الاعتقاد، حتى جلب على نفسه كثيرا من المشاكل، ورغم أن المحنة التي تعرض لها الإمام ابن الجوزي كانت في آخر عمره.

 

إلا إن أسباب تلك المحنة كانت قديمة، وبعيدة الجذور، وذلك لأمرين أولهما متعلق بالأجواء السائدة في بغداد خلال القرن السادس الهجري، وثانيهما متعلق بطبيعة شخصية ابن الجوزي، والتي أورثته خصومة وعداوة الكثيرين، فبغداد، ومنذ سيطرة الدولة السلجوقية على مقدرات الخلافة العباسية، وظهور شخصية الوزير الشهير نظام الملك، أخذ أتباع المذهب الشافعي، والعقيدة الأشعرية في الظهور والتحكم في الساحة العلمية لبغداد عاصمة الخلافة، والسيطرة على حلق العلم والمدارس الفقهية، ومحاريب الجوامع، وكانت تلك المكانة من قبل بيد أتباع المذهب الحنبلي، والعقيدة السلفية، فلما ظهر الشافعية استطالوا بشدة على الحنابلة، وضيقوا عليهم في المجالس والمدارس، ودخلوا معهم في مهاترات حامية بسبب العقائد، وشنعوا عليهم.

 

وظل الأمر على ما هو عليه فترة طويلة، حتى ظهرت شخصية الإمام ابن الجوزي، الذي استطاع أن يستقطب الناس إلى مجالس وعظه، ويبهرهم بفريد عباراته، وفائق تذكيراته، فحضر مجالسه عشرات الآلاف من الكبار والصغار، والرجال والنساء، وحضرها الخليفة العباسي نفسه، والسلطان السلجوقي، والوزراء والأمراء والكبراء، والأغنياء والفقراء، حتى كان يحضرها الشيعة الذين بهرهم رائع بيانه، خاصة وابن الجوزي كان من يداري ويهادن، ولا يخوض في الخلافيات، بالجملة أصبح ابن الجوزي حديث الناس، وأشهر علماء بغداد والعراق، وقد أدى ذلك لارتفاع مكانة الحنابلة، وإقبال الناس على شيوخ المذهب، وذلك الأمر أغاظ أتباع باقي المذاهب عامة، والشافعية خاصة، وفي عام خمسمائة وخمسون من الهجرة، استوزر الخليفة العباسي المقتفي بالله.

 

الوزير عون الدين بن هبيرة، وكان من خيار الوزراء، وأفاضل العلماء، وكان حنبليّا سلفيّا، وقد اجتهد ذلك الوزير الصالح في إقامة الدولة العباسية، واستعادة هيبة الخلافة، وحسم مادة ملوك السلاجقة، وكان ذلك الوزير مصاحبا لابن الجوزي قبل ذلك، فلما صار في الوزارة قرب ابن الجوزي واصطفاه لمجالسه ومشورته، وارتفعت مكانة ابن الجوزي أكثر مما قبل، وكذلك الحنابلة، وقد استمر ذلك الوزير في منصبه خلافة المقتفي، ثم ولده المستنجد، وكان له كثير من الخصوم لصلاحه، وكفاءته في الإدارة، والإخلاص للدولة العباسية، ومن كان خصما لابن هبيرة كان خصما لابن الجوزي معه للصداقة التي بينهما، وقد قتل ذلك الوزير الصالح بالسم سنة خمسمائة وستون للهجرة، ولم يعلم قاتله، وبموته أخذ أعداء ابن الجوزي في التربص به، والكيد له.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى