مقال

الدكروري يكتب عن الإمام محمد عبده ” جزء 6″

جريدة الاضواء

الدكروري يكتب عن الإمام محمد عبده ” جزء 6″
بقلم / محمـــد الدكـــروري

ونكمل الجزء السادس مع الإمام محمد عبده، وآخر في المدبر الإنساني والمدبر العقلي والروحاني، وثالثا في العلوم العقلية والدعوة إلى العلوم العصرية، وأنشأ الإمام محمد عبده في جريدة في الوقائع قسما غير رسمي إلى جانب الأخبار الرسمية، فكانت تحرر فيه مقالات إصلاحية أدبية واجتماعية، وكان الشيخ محمد عبده هو محررها الأول وظل الشيخ محمد عبده في هذا العمل نحو سنة ونصف السنة، استطاع خلالها أن يجعل الوقائع منبرا للدعوة إلى الإصلاح، وكان في مصر تياران قويان يتنازعان حركة الإصلاح، الأول يمثله فريق المحافظين الذين يرون أن الإصلاح الحقيقي للأمة إنما يكون من خلال نشر التعليم الصحيح بين أفراد الشعب، والتدرج في الحكم النيابي، وكان الإمام محمد عبده والزعيم سعد زغلول ممن يمثلون هذا التيار، والثاني يدعو إلى الحرية الشخصية.

والسياسية تأسيا بدول أوروبا، وكانت نواته جماعة من المثقفين الذين تعلموا في أوروبا، وتأثروا بجو الحرية فيها، وأعجبوا بنظمها، ومنهم أديب إسحاق وكان هؤلاء ينظرون إلى محمد عبده ورفاقه على أنهم رجعيون، ولا يوافقونهم فيما ذهبوا إليه من أن الإصلاح ينبغي أن يأتي بالتدريج ليستقر، وليس طفرة فيزول، وعندما اشتغلت الثورة العرابية سنة ألف وثماني مائة واثنين وثمانين ميلادي، التفّ حولها كثير من الوطنيين، وانضم إليهم الكثير من الأعيان وعلماء الأزهر، واجتمعت حولها جموع الشعب وطوائفه المختلفة، وامتزجت مطالب جنود الجيش بمطالب جموع الشعب والأعيان والعلماء، وانطلقت الصحف تشعل لهيب الثورة، وتثير الجموع، وكان عبد الله النديم من أكثر الخطباء تحريضا على الثورة، وبالرغم من أن محمد عبده لم يكن من المتحمسين للتغيير الثوري السريع.

فإنه انضم إلى المؤيدين للثورة، وأصبح واحدا من قادتها وزعمائها، فتم القبض عليه، وأودع السجن ثلاثة أشهر، ثم حُكم عليه بالنفي لمدة ثلاث سنوات، بين بيروت وباريس، وانتقل محمد عبده إلى بيروت حيث أقام بها نحو عام، ثم ما لبث أن دعاه أستاذه الأفغاني للسفر إليه في باريس حيث منفاه، واستجاب محمد عبده لدعوة أستاذه حيث اشتركا معا في إصدار مجلة العروة الوثقى التي صدرت من غرفة صغيرة متواضعة فوق سطح أحد منازل باريس حيث كانت تلك الغرفة هي مقر التحرير وملتقى الأتباع والمؤيدين، لقد أزعجت تلك المجلة الإنجليز، وأثارت مخاوفهم كما أثارت هواجس الفرنسيين، وكان الإمام محمد عبده وأستاذه وعدد قليل من معاونيهم يحملون عبء تحرير المجلة وتمهيد السبل لها للوصول إلى أرجاء العالم الإسلامي، وكانت مقالات الإمام تتسم في هذه الفترة بالقوة.

والدعوة إلى مناهضة الاستعمار، والتحرر من الاحتلال الأجنبي بكل صوره وأشكاله، واستطاع الإنجليز إخماد صوت العروة الوثقى الذي أضجّ مضاجعهم وأقلق مسامعهم، فاحتجبت بعد أن صدر منها ثمانية عشر عددا في ثمانية أشهر، وعاد الشيخ محمد عبده إلى بيروت سنة، مره أخري بعد أن تهاوى كل شيء من حوله، فقد فشلت الثورة العرابية، وأغلقت جريدة العروة الوثقى، وابتعد عن أستاذه الذي رحل بدوره إلى فارس وكان على محمد عبده يشغل وقته بالتأليف والتعليم، فشرح نهج البلاغة ومقامات بديع الزمان الهمذاني، وأخذ يدرّس تفسير القرآن في بعض مساجد بيروت، ثم دُعي للتدريس في المدرسة السلطانية ببيروت، فعمل على النهوض بها، وأصلح برامجها، فكان يدرّس التوحيد والمنطق والبلاغة والتاريخ والفقه، كما كتب في جريدة ثمرات الفنون.

عددا من المقالات تشبه مقالاته في الوقائع، وبالرغم من أن مدة نفيه التي حكم عليه بها كانت ثلاث سنوات فإنه ظل في منفاه نحو ست سنين، فلم يكن يستطيع العودة إلى مصر بعد مشاركته في الثورة على الخديوي توفيق، واتهامه له بالخيانة والعمالة، ولكن بعد محاولات كثيرة لعدد من الساسة والزعماء، منهم سعد زغلول والأميرة نازلي، ومختار باشا، صدر العفو عن محمد عبده، وآن له أن يعود إلى أرض الكنانة، وعند العودة إلى مصر كان كل شيء قد أصبح في يد الإنجليز، وكان أهم أهداف الشيخ محمد عبده هو إصلاح العقيدة، والعمل على إصلاح المؤسسات الإسلامية كالأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية واتخذ محمد عبده قراره بمسالمة الخديوي، وذلك حتى يتمكن من تنفيذ برنامجه الإصلاحي الذي يطمح إلى تحقيقه، والاستعانة بالإنجليز أنفسهم إذا اقتضى الأمر.

فوضع تقريرا بعد عودته حول الإصلاحات التي يراها ضرورية للنهوض بالتعليم، ورفعه إلى اللورد كرومر نفسه، فحقيقية الأمر التي لا جدال فيها أنه كان القوة الفاعلة والحاكم الحقيقي لمصر وكان الشيخ محمد عبده يأمل أن يكون ناظرا لدار العلوم أو أستاذا فيها بعد عودته إلى مصر، ولكن الخديوي والإنجليز كان لهما رأي آخر ولذلك فقد تم تعيينه قاضيا أهليا في محكمة بنها، ثم الزقازيق، ثم عابدين، ثم عين مستشارا في محكمة الاستئناف وبدأ يتعلم اللغة الفرنسية وهو قاضي في عابدين وكانت سنه حينئذ قد شارفت على الأربعين حتى تمكن منها، فاطلع على القوانين الفرنسية وشروحها، وترجم كتابا في التربية من الفرنسية إلى العربية، وبعد تولي الخديوي عباس، الذي كان متحمسا على مناهضة الاحتلال، سعى الشيخ محمد عبده إلى توثيق صلته به.

واستطاع إقناعه بخطته الإصلاحية التي تقوم على إصلاح الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، وصدر قرار بتشكيل مجلس إدارة الأزهر برئاسة الشيخ حسونة النواوي، وكان الشيخ محمد عبده عضوا فيه، وهكذا أتيحت الفرصة للشيخ محمد عبده لتحقيق حلمه بإصلاح الأزهر، وهو الحلم الذي تمناه منذ أن وطئت قدماه ساحته لأول مرةن وتم تعيينه مفتيا للبلاد، ولكن علاقته بالخديوي عباس كان يشوبها شيء من الفتور، الذي ظل يزداد على مر الأيام، خاصة بعدما اعترض على ما أراده الخديوي من استبدال أرض من الأوقاف بأخرى له إلا إذا دفع الخديوي للوقف عشرين ألف فرقا بين الصفقتين، وتحول الموقف إلى عداء سافر من الخديوي، فبدأت المؤامرات والدسائس تحاك ضد الإمام الشيخ، وبدأت الصحف تشن هجوما قاسيا عليه لتحقيره والنيل منه.

ولجأ خصومه إلى العديد من الطرق الرخيصة والأساليب المبتذلة لتجريحه وتشويه صورته أمام العامة حتى اضطر إلى الاستقالة من الأزهر، وإثر ذلك أحس الشيخ بالمرض، واشتدت عليه وطأة المرض، الذي تبيّن أنه السرطان، وقد انتقل إلى رحمة الله تعالى بالإسكندرية في الساعة الخامسة مساء يوم التاسع من شهر جمادى الأولى سنة ألف وثلاثمائة وثلاثة وعشرين من الهجرة، الموافق الحادي عشر من شهر يوليو سنة ألف وتسعمائة وخمسة ميلادي، عن سبع وخمسين سنة، ودفن بالقاهرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى